الرئيسية / أمازيغيات / مظاهر الهجاء في شعر الرحل الأمازيغ بوادي نون – أحمد بلاج

مظاهر الهجاء في شعر الرحل الأمازيغ بوادي نون – أحمد بلاج

مقدمة

إنّ الشيء الذي يميّز كلّ شعب ما هو ثقافته وتراثه، هذه الثقافة تعتبر من بين الجذور الأساسية التي تنبني عليها ركائز وجود هذا الشعب، هناك معرفة مرتبطة بالفرد وإسهاماته الإبداعية تصلنا على شكل مكتوب وأخرى شعبية مرتبطة بالشعب بصفة عامة، كالفنون والمعتقدات والأدب بمختلف أشكاله، هذا النوع من المعرفة يصلنا في شكل شفوي ينتقل من جيل إلى آخر، وعبر هذا التنقل صاغ الإنسان معرفته وفلسفته للحياة ونظرته إلى الكون وفق احتياجاته، وعبّر عن أفكاره ووجوده الإنساني.

وفي هذا الإطار ظهر شعر الرحل الأمازيغ[1] بوادي نون بالجنوب المغربي كفن سكن بطون الجبال والصحاري وتغنّت بجمالها وبسحرها وشقائها، “وهذا الفن لا نجده إلّا عند بعض القبائل الرحل الأمازيغية المنتشرة في سفوح جبل وادي نون بجهة ﮔـلميم جنوب المغرب”[2].

هكذا وقع اختياري على موضوع “مظاهر الهجاء في شعر الرحل الأمازيغ بوادي نون[3]“، ليكون موضوعا لهذا المقال واتخاذ منطقة وادي نون[4] مجالا للبحث والدراسة. وتكمن أهمية هذا المقال في تسليط الضوء على جزء مهم من تراثنا الشفهي الذي لا يزال صامدا أمام هيمنة الثقافات واللغات الوافدة. محاولين حفر وكشف أغواره، خاصة بعد زوال بعض عوامل إبداعه (طقس الإبداع) وغياب دواعي روايته، وضعف حوافز الإقبال عليه أمام غزو الحضارة الجديدة بوسائلها الساحرة والمغرية لجل المداشر. وفي هذا المقال سنحاول الإجابة عن الإشكالية التالية: كيف استطاع شعراء الرحل الأمازيغ بوادي نون توظيف الهجاء في أشعارهم.

مفهوم الهجاء

الهجاء خلاف المدح، وهو الوقيعة في الأشعار. وهجاء بمعنى شتمه بالشعر و”الهجاء ذو جذر ثقافي عميق يرتبط بالسحر، وبفكرة تدمير الخصم عبر تصويره بصورة بشعة تلعب دورا سحريا تؤول إليه حال الخصم حسب وصف الشاعر/الساحر له”[5].

الهجاء أسلوب فنّي من أساليب فنون الشعر الغنائي، يعبّر به الشاعر أو الشاعرة عن عاصفة الغضب، أو الاحتقار، أو الاستهزاء والاستفزاز شعرا ونظما. ويمكن أن نسميه فنّ الشتم/”تاﮊوري نْ ءوزاوار”، فهو نقيض المدح كما أشرنا سابقا. ففي الأشعار الهجائية، نجد نقائض الفضائل التي يتغنّى بها، فالغدر مثلا ضد الوفاء، والبخل ضد الجود، وغيرها من الأضداد. وأبلغ أنواع الهجاء ما يمس الأعماق النفسية والسيكولوجية كأن يصف الشاعر خصمه بالجبن/ أهربوب، والبخل/أسقرام، والكذب/ بوتكركاس، وغيرها من الصفات المذمومة.

الأدب بجميع أنواعه وموضوعاته لوحة فنية للحياة وتعبير عن أفكار يحسّ بها الأديب من خلال تفاعله وانصهاره مع هذه الحياة ويخلق فيها لوحة أدبية إبداعية تعكس تلك الحياة المرة أو الجميلة التي يراها هو في الواقع الاجتماعي. والشعر الأمازيغي بدوره أداة فنية جميلة يستخدمها الشعراء للكشف عن أعماق أحاسيسهم وأحاسيس غيرهم في كل الأحوال. حتى هذه المشاهدة المؤدية المزعومة التي يتناولها الهجاء إنما هي جزء من هذه الحياة. فهو –الهجاء-:”قوة بنائية إلى جانب هذا المظهر الهدام هو أول ما يطلع المتصفح له فهو حين يهاجم شخصا من الأشخاص أو نظاما من النظم أو نزعة من النزاعات يتصور في حقيقة الأمر حياة أخرى بأشخاصها وأسلوبها ونظامها وهي مثله الأعلى الذي يطمح إليه ويدعو له فالهجاء له فلسفة في الحياة يريد أن يؤديها إلينا”[6].

والهجاء أسلوب فنّي شاسع مارسه معظم الشعراء والشواعر الرحل الأمازيغ بوادي نون، على امتداد عصورهم مدفوعين إليه بدوافع كثيرة منها ذاتية نفسية وسياسية واجتماعية وسيكولوجية وسلوكية وغيرها، وذلك كان الهجاء وثيق الصلة بحياتهم العامة شديد الارتباط بها. ونسوق مثالا لشاعر يهجو محاورته ويصفها بالضبع الكريه الرائحة، إذ استعمل الشاعر رمزية الضبع إحالة على شكله الخبث استفزازا وتهكّما لها، فمظهر الضبع ورائحته استغلّها الشاعر كوسيلة وكلغة قاسية على محاورته، موضّحا أنّ سلوكياتها تسبّب في خراب وحفر البلدة وهذه الأخيرة استعملها الشاعر إحالة على الكلمة الموزونة التي تخربها محاورته بسبب ضعفها في قول ونظم الشعر الموزون، وهذا ما جعل الشاعر يهجوها ويسخر منها مركزا على سيكولوجيتها النفسية، بكونها اقتحمت فضاء أسايس وبدأت تخربه كما تخرب أدبياته وأخلاقياته بشعرها الرديء مما نتج عن ذلك فقدان قيمة الحوار والإبداع المتسم بالجمال والروعة والكفاءة وغيرها، حيث يقول:

إِكْـــــشْمْدْ إِيــــــــفِيسْ سْ ؤُﮔــــــــنْسْ نْ تْمَازِيرْتْ

ئِنَّـــــــــا ؤُرْ إِفْــــــــــــــرْضْ إِخْـــــــــلُوتْـــــــــــنْ أْكْ[7]

فأجابته محاورته بنوع من الافتخار والاعتزاز بالنفس قائلة إن الضبع ليس براقص ليفرّ، مشبّهة نفسها بالضبع الذي يرمز بالقوة والتحدّي كناية بقوّة قولها للكلمة الشعرية القوية داخل أسايس، مؤكّدة أنّها لا تخاف، بل تتحدى كلّ شيء وكل الشعراء، وبالتالي فالضبع يستدعي قوّة طلقات المدافع للنَّيل منه، هذه الأخيرة تحيل على الكلمة الشعرية الموزونة، بها ستبقى الشاعرة صامدة وقوية بالميدان، إذ تقول:

ءَا هَانْ ءِيفِيسْ ؤُرْ ءِيـﮔِـي ءَاهْيَّاضْ ءَاتْنْ طَّايْغْ

إِغْ ؤُرْ ءِيـﮔِـي لاَنْفْاضْ دْ لْعِلْمْ ئِيـﮔـوتْنْ ؤُرَاتْنْ طَّايْمْ[8]

ونجد عند شاعر آخر يوبّخ محاورته، ويصفها بفاقدة الأسنان، ولا أحد يتقدم إليها للزواج، واصفا إياها بكبيرة السن، إذ شاخت قبل زواجها، ويدعو ربّه ألا تساق إلى حظيرته. وقد استعمل الشاعر سلاحه اللغوي المفعم بنكهة الهجاء والتهكّم، وذلك بتعبير قاس نلمسه من خلال مستوى البلاغة التي تؤطّرها العلاقات بين الكلمات والجمل من أجل جودة التعبير والرقي بالشعر إلى مستوى الشاعرية والشعرية. وفي هذا الإطار يسكن الهجاء والازدراء والتلاعب على نفسية الشاعرة، حيث قال الشاعر:

ءَا وَارْ ؤُخْسَانْ ءَا مِيجُّو مَاكْ ئِيتْصُومْنْ

ئِيشِيبْ ؤُجْدَاعْ ؤُرْتَا جُّو لِينْ تَارِيكْتْ

ئِيسْ نْضَالْبْ إِرْبِّي أَكِّيدْ ؤُرْ ئِيلُوحْ سْ لْمْرَاحْ إِنْوْ[9]

ونجد شاعرة أخرى تهجو محاورها بعدما جاءت به الأقدار إلى فضاء أسايس بعد مدة طويلة، حيث كانت علاقة هذا الشاعر بالفتيات علاقة سيئة ربما لأسباب مشينة بينهما ولفترة بعيدة، فبقيت تلك العلاقة المشينة مستمرة في جميع الأحوال والظروف، هكذا وبمجرد دخوله إلى فضاء أسايس رحّبت به شاعرة من بين الشواعر التي كانت معه في الميدان ببيتين شعريين قاسيين واصفة إياه بالكلب المسعور الذي يتيه بين الطرقات، قائلة:

ءَاﮔَـارْ أَيْـــدِي مَاغْكِيـــــــدْ ئِيِــــــــوينْ إِغَارَاسْنْ

ؤُلاَ إِزُورْدُوزْنْ رَاكِّيـــــــدْ نْشْمْــــــتْ سْ إِلَمْنْ[10]

ولتضيفه شاعرة أخرى مستمرة في هجومها ضدا في الشاعر نفسه، واصفة إياه مرة أخرى بكلب الحي الذي كان دائما ينتظر بقايا العظام؛ فالشاعرة صورته في صورة كلب، ذلك الكلب الذي ينبح كل مرة، فالشاعرة كرهته كما كرهت نباحه، فوبّخته أنّ العظام غير موجود فلا تنتظرها، مؤكّدة أن سبب إغلاق منزلها هو كرهها الشديد له، ونلمس ذلك الكره في قولها:

 

تُّوخْ ءَا يَـــــايْدِي نْ دْرْبْ إِخْــــــسَانْ ؤُرَاكْ لِّــــينْ

أَفْ قْنْـــغْ تِيــــﮔْــــــمِّي إِسْ حَـــاشَــــــاغْ أَوَالْ نْـــكْ[11]

ليردّ عليهن هو الآخر بلغة هجائية قاسية مغترفا وسائله الهجائية من فلسفته الشعرية الهجائية مركزا على الجانب السيكولوجي لمحاورته، مؤكّدا على ألا تخذلك مظاهر الفتاة الخارجية، فكلها نجس ووسخ، معتبرا إياه مصدر النجاسة والأوساخ، إذ يقول:

أَدْ أَكْ ؤُر تَامْنْتْ تُوﮔَّــــاسْ نْ تْعْيَّالــــْتْ

مْنْ أَفُــــــودْ نْسْ دْ ؤُوفْلاَّ هَانْ إِرْكَـــانْ أَيْـﮔَـا[12]

لتجيبه هي الأخرى بكل افتخار واعتزاز، كونها بعيدة عنه كل البعد، كما تبعد الأرض عن السماء، فأراد أن يعيبها مشبهة إياه باللقالق/بْلاّرْجْ، مؤكدة أنه يريد عيبها، وشأنها هو أن تجعله فرجة للجمهور ومسرحا للضحك والتهكم والسخرية أكثر ما كان عليه في البداية، قائلة:

نْلَـﮔَـا دِيكْ غُونْشْكَّــــــانْ إِلَـﮔـــــــا إِﮔْـنَّا دْ وَكَالْ

ءَا تِيـــــريت ءَادِيِّـــــي تْعِيبْتْ ءَا بْـلاّرْجْ إِيــقُورنْ

ئِــــــيربِّي شاهْــــــــدات إِغْــــــوَّادْ إِرَا لْعَـــــارْ إِنْو

أد أس نْكْسْ أقشَّـــــــــاب أمُـــــو تســـوتولن[13]

فردّ عليها بكلّ ثقة في النفس، تحدّاها بكلّ ما عندها داعيا إياه أن تأتي بكل ما في جعبتها من كلام شعري موزون، فهو لا يخشاها، وذلك في قالب شعري أدبي رمزي عبّر من خلاله الشاعر عن توهجه الشعري للارتقاء باللغة والجمال إلى برج الشعرية والشاعرية المتولدة من شحنة الهجاء والمعنى التهكمي الذي تغرق أبياته في الصورة والإيقاع، حيث يقول:

أَكْــــــــمْ إِحَاسْبْ رْبِّي إِنَّا دَارُونْتْ تِينِيــــــمْتْ

إِنَّــــــــــا دَارْمْ ؤُرْ إِلِّينْ سْمْدَاسْنْ إِنْيتْــــــــــنْ[14]

في سياق آخر، عبّر شاعر عن غضبه تجاه خطيبته بعدما رآها تتحدث مع شخص آخر في المراعي، والذي كانت بينهما علاقة حب عميق وصل إلى درجة تسليم الفتاة لجسدها كتعبير عن وصول عشقها لأعلى الدرجات إلا أن اكتشافه لخيانتها له مع رجل آخر دفعه ذلك إلى وصفها بحليب نجس فقد نقاءه وصفاءه بعد أن مسّته أيدي أخرى موضّحا أنّ الحبّ الذي تذوّقه معها من خلال العلاقة الجنسية بينهما لم يعد له طعم، بل صار من الأشياء المقزّزة بالنسبة له. هكذا أعلن الشاعر هجومه عليها بِعدم احترامها لعلاقتهما، مشبها إياها بالحليب الذي سقط فيه الذباب، ليستمر في مهاجمتها موضحا أنه رغم شرابه لذلك الحليب فلم يعد حلوا كما كان من قبل، وقد عبر الشاعر عن هذا الإحساس بلغة شعرية قاسية مستحضرا رموزه الشعرية بطريقة محكمة إيقاعيا وجماليا وكذا فنيا بأسلوب يطغى عليه عدوانية الهجاء وحرارة الغضب، حيث قال:

ءَا فَــــارُوزْ إِضْـــــــرْنْ ئِيــــــــزِي غُوكْـــــفَايْ نْكْ

مْقَارْتْ نْسْـــوَا ؤُرْ يَادْ ئِيمِّيــــــمْ غْ لْخـــــــَاطْرْ[15]

لكن جواب الفتاة كان ذكيا حيث شبّهت علاقة الخطبة التي تجمعهما بعملية البيع والشراء يحكمها عقد كشريعة المتعاقدين، وأوضحت أن أهم بند في هذه العلاقة هو التراضي إن انعدم حلّت مكانة فسخ الخطبة مؤكّدة أنّ خروجه من حياتها سيفتح المجال لأشخاص آخرين يتمنون رضاها، وقد عبرت الشاعرة عن هذا الرد بشاعرية فنية رائعة، حيث قالت:

نْقِّيمء أَكْ نِيتْ ئِيـﮔْـْر أَدْ سْ لْقِيلُولْتْ

لْحَالْ ئِيغْكْ ؤُرْ ئِعْجْبْ أَسِي لْمَالْ نْكْ

ﮔُـودْ أَجْدَاعْ تَرْﮊْمْتْ ئِيلْجَامْ نْسْ

أَتِّيـﮔُـودْ وَالِّي ؤُرْ إِهْمَّا لْمَالْ نْسْ[16]

ونجد في سياق آخر، شاعرة تهجو شابا ذا بشرة سوداء بعد إقحامه لفضاء أسايس لممارسة رقصة ترحالت، وكان هجاء الشاعرة حسب تفكيرها وقناعتها هو عدم رغبتها في تواجد ذاك الشاب بينهم؛ فهو ليس أهل للتواجد بينهم بسبب لون بشرته السوداء، واصفة إياه بالحصان الأسود الذي لا يصلح إلا لحمل فضلات الحيوانات، حيث قالت:

أَيِسْ ؤُسْـﮔِـينْ ؤُرْ ئِـﮒِ وِينْ ئِيمَاوَالْنْ

ؤُرْ ئِيـﮒِ إِبْلاَ ؤُمَازِيرْ أَتْنْ ئِتَّاسِي[17]

لكن ردّ الشاب كان سريعا حيث أكّد أنّ لون البشرة ليس معيارا للجمال؛ فرغم بياض بشرتها هي إلاّ أنّها ليست سبب انجذابه للمكان، مشبّها إياها بشحم الأفعى، فرغم بياضها فلا غرض ولا حاجته لها، وقد عبر الشاب عن ردّه بلغة شعرية قاسية باعتبار جوابه مناسبا ومقنعا لشابة التي أرادت إحراجه وإبعاده عن المرقص، لكن الشاب يتمتع بسرعة الرد المحكم، والذي يعبر عن مدى براعة الشاب وولوعه بقول الشعر المضاد، يقول:

أَ تَادُونْتْ نُولْـﮔْـمَاضْ مْقَّارْ تْمْلُّولْتْ

ؤُرْيكْمْ ئِرِي لْغْرْضْ ؤُلاَ ئِيمَانْ إِنْو[18]

وفي سياق آخر، شاعر اختار العنوسة كموضوع هجاء لمحاورته، حيث استغل تواجد فتاة عانس في أسايس ليوجه لها الخطاب واصفا إياها بالبضاعة المنتهية الصلاحية التي تعرض في سوق بيعت كل البضائع إلا هي، قائلا:

ءَافُوضْنْتْ كُولُو تْونْزِيـــوينْ تَامَا نْـمْ

إِبُــورْ أَكْ وَالّي ؤُرْ ئِـﮔِـينْ ئِيِتْمْـسَاخْتْ[19]

لترد عليه الفتاة ردا في الصميم، إذ كان جوابها أنيقا لم تتجاوز فيه أدبيات الحوار حيث خاطبت محاورها؛ موضّحة أنّ الزواج شأن شخصي وما دامت بعيدة عن حياة الشاعر فهي حرة في اختيار عانسة كانت أو متزوجة، وما دام كان أبوها حيّا فهو قادر عليها وعلى مسؤوليتها، تقول:

يَاكْ ؤُرْ فْلاّكْ نْبُورْ ءَا يْويسْ نْ مِيدْنْ

أَحَانُـــو نْ بَابَا أغْ نْبُورْ إِزْضْارْ أَنْــــغْ[20]

شاعر آخر أتى بالحنيفة كوسيلة اصطناعية لجمع الماء وخزن المياه قد لا تؤدي وظيفتها إن لحقها ثقب في القعر، حالة الحنيفة هذه استغلها الشاعر في إطار الصورة الشعرية ليخبرنا أنه باع منزله ونسبه من أجل فتاة ما وفي الأخير تفاجأ بكونها ليست بكرا بل فقدت عذريتها وأصبحت بذلك كالحنيفة التي تلاشى قعرها، هذا إحساس الشاعر عبّر عنه بشدّة غضبه مخاطبا إياها بلغة الفضح والتهكّم والهجاء، قائلا:

زْنْزِيغْ فْلاّمْ تِيـﮔْـمِّي ؤُلاَ لاَصْلْ

زِّيغْ ءَا تَانُوضْفِي إِبُّوكَا ؤُسِيلاَ نْمْ[21]

وفي سياق آخر، والشاعر نفسه يهجو زوجته بعد طلاقهما واصفا إياها بالحنيفة كما في البيتين أعلاه، لكن بطريقة شعرية وبتعبير آخر يحمل بين طياته وسائل هجائية عدوانية ولغة قاسية توضح حرارة الهجاء، حيث قال:

تَانُوضْفِي نْـﮔـرْ سَا إِغَارَاسْنْ

خَلاَنْنْ كُولُو إِدْوَّايْنْ إِمِي نْمْ[22]

فأجابته بكونه لا دواء فيه، مشبهة إياه بنبات الدفلى وهي نبات شديد السموم، كما شبهته بحليب شجرة الزقوم، معبرة أنّه مر ومصدر المرارة، حيث قالت:

 

ءَا تَامْنْتْ دْ ؤُلِيلِي دْ ؤُغُو نْ تِيكِيوتْ

نْتَّانْ ءَا تْـﮔِـيتْ ؤُرْ ﮔِـيكْ لاّنْ إِسَــــــافَارْنْ[23]

ليكون رد الشاعر قاسيا مشبها إياها بالطير الذي أكل منه الصياد رغم عدم موته، بمعنى أن الموت هنا يقصد به الشاعر الزواج، وبالتالي أن الفتاة التي شبهها بالباز أكلها الصياد الذي هو كناية على رجل مجهول، هذا الأخير الذي مارس معها علاقة جنسية غير شرعية، وصفه الشاعر بالصياد الذي أكل منها بدون ثوابت شرعية وسند قانوني، وقد عبر الشاعر عن هذا الموقف المحرج بالنسبة لمحاروته بلغة شاعرية قاسية وذلك بأسلوب هجائي جريح، حيث قال:

ءَايْـــــهَايَّا نْـــــكْ ءَاوَا ءَا لْــــبَاز،ْ ءَايْـــــــهَايَّا نْكْ

إشَّــــا ﮔِـيــــكْ ؤُصْـــــــيّادْ ؤُرْ أَكْ تـــْمُّـــــوتْ[24]

في مثال آخر، وفي سياق آخر شاعر يهجو محاوره واصفا إياه بالعبد بسبب لون بشرته السوداء حيث أكد أن جزاء من تجرأ على أسياده (هنا يقصد أصحاب البشرة البيضاء)، سيكون مقايضته بالمال في سوق العبيد، حيت قال:

إسْــــــمْـﮒْ ءَادْ ءَارْ إِضْـــــــــﮊِي دْ إِدْ سِيـــــــدِيــــسْ

ؤُرْتْــــــنْ يُوقْرْ، رَاتْ أَكْ نْـــزْنْــزْ نْـــغْوِي لْــــمَالْ نْسْ[25]

فكان رد الشاعر صاحب البشرة السوداء، ردا هادئا وواثقا وفخورا بنفسه، معتزا بلون بشرته موضحا أنه لم ولن يخجل من لون بشرته السواد التي لم تكن يوما معيارا للعبودية والدليل هو زواجه من امرأة بيضاء.

إِسْــــمْـﮒْ ءَادْ ﮔِـيــــــغْ أَجِّيـــﮒْ نْـــشّاتْ فَــــلاَّونْ

إِسْــمْـﮒْ تِيــــــﮔـْمَّا ﮊٍيــــــــلْنِيــــنْ ءَا غَاتِّيــــــــلِيـنْ[26]

هكذا شعراء الرحل بوادي نون بالجنوب المغربي، فلا غرابة في أن تكثر الأغراض الشعرية في شعرهم ولا غرابة في أن يكون للهجاء حضور واضح في شعرهم. إن الوادنونيين الرحل هاجوا من خصومهم وبدا غرض الهجاء واضحا في أشعارهم، استعملوا فنونا بلاغية في هجائياتهم ومن أشهر هذه الفنون التشبيه والاستعارة والوصف والكناية، لقد حضرت الاستعارة في موضوع الهجاء حضورا ملفتا لأن الشعراء كانوا يوظفونها لإيصال المعنى الذي يريدونه في المهجو.

خاتمة

 من خلال ما سبق يمكن القول إنّ هذا النوع الشعري ما هو إلا لوحة فنية تختزل كل ما يحيط بحياة الرحل بوادي نون، هو مرآة يعكس الواقع الذي يعيشه هذا الإنسان واندماجه مع المحيط الذي ينتمي إليه. ويعتبر الهجاء في فكر الإنسان الأمازيغي الوادنوني ووجدانه عميق الجذور في تراث الشعر الأمازيغي منذ القدم، إذ يمكن القول إنّ موضوع الهجاء في هذا الشعر لا يكتفي بصورة واحدة لمهجوه، بل يتناول جوانب مختلفة ليخرج له صورا عديدة تبرز عيوبه الشكلية والعاطفية والخلقية والأخلاقية والاجتماعية والسيكولوجية؛ وبالتالي فإن شعر الرحل هذا هو مادة أدبية خصبة فيه كثير من المواضيع البكر التي لم يتناولها أحد بعد بالدراسة والبحث. وتبقى هذه الدراسة لهذا النوع الشعري المتميز مجرد محاولة لتقريب هذا النوع الشعري الغنائي، وتسليط الضوء عليه وتمهيد السبيل للباحثين من أجل دراسته وإبراز خصائصه الفنية والجمالية وفق مقاربات مختلفة ومتنوعة.

باحث من المغرب

 

المراجع والمصادر

  • إبراهيم أوبلا، أمارك ن ؤسايس:”مقاربة أنثروبولوجية لفنون أسايس الأمازيغية”، الطبع Souss impression, Agadir، الطبعة الأولى؛ أكتوبر 2012.
  • عبد الله الغذامي، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافة العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2000.
  • محمد محمد حسين، الهجاء والهجاءون في الجاهلية، مكتبة الآداب بالجماميزت، بدون سنة الطبع.

المصادر الشفوية

  • حسن بلاج، 45 سنة، من حفاظ شعر ترحالت، أسا زاك، إقليم كلميم، يوم 24 مارس 2017.
  • الحسين بلاج، 43 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، أسا زاك، إقليم كلميم، يوم 22 مارس 2017.
  • حميد إدعلي، 39 سنة، من حفاظ شعر ترحالت، دوار دو أدرار جماعة تغجيجت إقليم كلميم، يوم 20 يناير 2018.
  • عبد الله أمزوك، 42 سنة،43 سنة شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تيسلـﮔـيت أيت علي جماعة تمنارت، إقليم طاطا يوم 14/04/2017.
  • عبد الله تيكى، 84 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تـﮔـموت جماعة تغجيجت، إقليم ﮔـلميم، يوم 25/03/ 2017.
  • مبارك أنزيض، 66 سنة، شاعر ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تارﮔا مايت، إقليم كلميم 27/06/2021.
  • محماد بوجديد، 36 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار دو ادرار، جماعة تغجيجت، إقليم كلميم، يوم 12 يناير 2016.
  • محمد أحتوش، 28 سنة، باحث ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تاﮔموت، جماعة تغجيجت، إقليم كلميم، يوم 25 يناير2018.
  • محمد أوعلي أنزيض، 64 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تـﮔـموت جماعة تغجيجت، إقليم ﮔـلميم، يوم 14/03 2017.

 

[2] – إبراهيم أوبلا، أمارك ن ؤسايس:”مقاربة أنثروبولوجية لفنون أسايس الأمازيغية”، الطبعSouss impression, Agadir، الطبعة الأولى؛ أكتوبر 2012، ص: 211.

[3]  نقصد بالرحل الأمازيغ: القبائل الأمازيغية التي تتحدث لهجة تاشلحيت والتي تمارس فنون متنوعة وفريدة، وهي (أيت براهيم، أيت علي، ادوسلام وأيت مربط وغيرها).

[4]  تعتبر منطقة وادي نون من أقدم مناطق الاستقرار بالجنوب المغربي، ويرجع الدارسون والباحثون أصل سكانها إلى لمطة وجزولة، ينظر في هذا الصدد كتاب الأستاذ ابن حوقل أبو القاسم بعنوان:”صورة الأرض”، وكتاب الأستاذ محمد الصافي بعنوان:”واد نون خلال القرن 19 مساهمة في دراسة التاريخ لاقتصادي ولاجتماعي من خلا وثائق محلية”.

[5]– عبد الله الغذامي، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافة العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2000، ص: 162.

[6] – محمد محمد حسين، الهجاء والهجاءون في الجاهلية، مكتبة الآداب بالجماميزت، بدون سنة الطبع، ص: 97.

[7] – محمد أوعلي أنزيض، 64 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تـﮔـموت جماعة تغجيجت، إقليم ﮔـلميم، يوم 14/03 2017، الساعة: 10:23.

[8] – عبد الله تيكى، 84 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تـﮔـموت جماعة تغجيجت، إقليم ﮔـلميم، يوم 25/03/2017.

[9] – عبد الله أمزوك، 42 سنة،43 سنة شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تيسلـﮔـيت أيت علي جماعة تمنارت، إقليم طاطا يوم 14/04/2017، الساعة: 10:23.

[10] – محمد أحتوش، 28 سنة، باحث ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تاﮔموت، جماعة تغجيجت، إقليم كلميم، يوم 25 يناير2018، الساعة: 21:24.

[11] – حميد إدعلي، 39 سنة، من حفاظ شعر ترحالت، دوار دو أدرار جماعة تغجيجت إقليم كلميم، يوم 20 يناير 2018، الساعة:21:25.

[12] -حميد إدعلي مصدر سابق.

[13] – محمد بلاج، مصدر سابق، يوم14/04/2017.

[14] – حميد إدعلي، مصدر سابق، يوم 20 يناير 2018، الساعة:21:25.

[15] – مبارك أنزيض، 66 سنة، شاعر ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار تارﮔا مايت، إقليم كلميم 27/06/2021.

[16] – محماد بوجديد، 36 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، دوار دو ادرار، جماعة تغجيجت، إقليم كلميم، يوم 12 يناير 2016.

[17] – الحسين بلاج، 43 سنة، شاعر محلي ومن حفاظ شعر ترحالت، أسا زاك، إقليم كلميم، يوم 22 مارس 2017.

[18] – محماد بوجديد، مصدر سابق، يوم 26-30/2019..

[19] – محمد أوعلي أنزيض، مصدر سابق، يوم 14 فبراير 2017، الساعة: 11:48.

[20] – محماد بوجديد، مصدر سابق، يوم 14 فبراير 2017، الساعة: 11:20.

[21] – لحسين بلاج، مصدر سابق، يوم 25 يناير 2018، الساعة: 14:57.

[22] – محمد بوجديد، مصدر سابق، يوم 30 مارس 2018، الساعة: 22:00.

[23] – حميد إدعلي، مصدر سابق، 14/02/20219.

[24] – محمد أحتوش، مصدر سابق، يوم 20 يناير 2018، الساعة: 8:00 ليلا.

[25] – حاميد إدعلي، مصدر سابق، 12/03/2020.

[26] – حاميد إدعلي، مصدر سابق، 12/03/2020.

عن madarate

شاهد أيضاً

دراسات في الأدب الحكائي الأمازيغي. (الحلقة الثانية) – الحسن زهور

  يعد الأدب الحكائي الأمازيغي من أغزر وأغنى الآداب الحكائية العالمية، أدب قال عنه العلامة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *