الرئيسية / الأعداد / العدد الخامس والخمسون / بين العنوان والمتن ترسم رواية “ليتني لا زلت منسيا” أفق تيماتها – المختار النواري

بين العنوان والمتن ترسم رواية “ليتني لا زلت منسيا” أفق تيماتها – المختار النواري

بين العنوان والمتن ترسم رواية ليتني لا زلت منسياأفق تيماتها – المختار النواري

 

تخرج عن مؤسسة آفاق المراكشية ـ الطبعة الأولى 2022 ـ رواية قال عنها صاحبها أنها أول عمله السردي، وإن كان ذلك باعتبار ما يصل إلى القارئ، على أنه لا يمنع من أن تكون في مخزون المؤلف، وأوراقه الخاصة، أعمال سردية كثيرة، وهو الجواد بقلمه، البخيل بإخراجه؛ ومن طبيعة شخصيته ميل فياض إلى السرد، وعشق له، واستمتاع بلحظاته، منذ فترات نشأته الأولى، وخلال مراحل تعلمه، وفترات شبابه، وصولا إلى نضجه قارئا متفرسا، ومبدعا متمرسا.

ويتألق بهذا العمل الحسن الكامح، الذي ألفه القراء شاعرا، وعرفه عشاق العدسة البصرية فوتوغرافيا، وخبره أصحاب الريشة متذوقا تشكيليا، واكتشف فيه أهل الفن، وأرباب المواهب، فنانا مبدعا، وصادفته أنا إنسانا طيبا.

وكان للمؤلف أن سماها: “ليتني لا زلتُ منسيا“.

العنوان يرسم أفق تيمات المتن:

إن العنوان بما أوتي من سلط عديدة، تتجلى في الترؤس، والابتداء، والتصدر على الغلاف الخارجي، واحتلاله لمواقع عدة ضمن الصفحات الداخلية، وتوزعه بين مناص الناشر والمؤلف، وتقاسمه بينهما، يستطيع، وفي حال نضجه، أن يحدد المسارين الأساسين في كل عمل فني، سردي وغيره، وهما: المسار الموضوعي والمسار الفني. ولقد كان بمقدار عنوان العمل السردي الأول للحسن الكامح ان يحقق ذلك، وبتوفق وتفوق كبيرين.

اعتبر الكثير من الدارسين العنوان مفتاح العمل، وأضيف: “وقفلا له”. ولذلك فلا جدال في كونه مَعْبَرا اساسيا الى العمل، لا على مستوى الترسيم والقراءة، وإنما على مستوى الدلالة والأبعاد، وتأسيس بنية النص العميقة، وكذلك على مستوى تحديد الكلمات المفاتيح، وتأسيس الحقول المعجمية والدلالية الأساسية للعمل ككل. وإذا كانت الكتابة في أصلها تركيبا وبناء، فإن درجة التركيب والبناء تتعالى، وتتكثف في العنوان، باعتبار أن خاصية التكثيف والتركيز والتلخيص تتحقق فيه بشكل أسمى وأبرع وأبدع وأنصع.

هذا هو الأصل، ولكنه قد يفوت العناوين غير الموفقة، التي لم يمنحها أصحابها حقها من الاهتمام والانكباب والتركيز، وفاتتها درجة البراعة والإبداع والنصاعة.

ما من مبالغة في ادعاء أن عنوان العمل السردي الأول للحسن الكامح ـ “ليتني لا زلت منسيا” ـ قد نال حقه من كل ذلك، ولم يفته نصيبه من البراعة والإبداع والنصاعة، لأن صاحبه تملك من ناصية الكتابة، وخبرة ممارستها، بعدما نضج شاعرا متمرسا، وكاتبا ممارسا، وصحافيا مشاركا، لعقود من الزمن، ما لا يمكن أن يُفوِّت عليه مثل هذا الاتقان، وهذه المهارة، ولأن العنوان نفسه مستمد من كتابات فنية سابقة، لها حمولتها ومستواها البلاغي الرفيع، وتاريخها الفني، الذي تراكم عبر قرون عدة.

وبالتوقف عند العنوان، والتأمل فيه، يمكن أن ندرك أن بناءه تأسس على تيمات أربع، فكان تأشيره عليها، وتوجيهه إليها، وقد تأثرت كلها بفاعل رئيس (ضمير المتكلم)، الذي يحضر في أداة التمني (ليتني)، والفعل “زِلْتُ”، والصفة “مَنْسِياً”. ولا يخلو منه إلا الحرف “لا”، الذي إن لم يتقبل الضمير بصفته الحرفية، فإنه يستوعب المتكلم الناطق به باعتباره ردة فعل، وموقف كلامي، صادر عن متكلم، حي فاعل، يتخذ موقفا، ويعلن وجهة نظر.

وأما التيمات الأربع، فيمكن حدها بـ:

1- التمني: بما تحمله الأداة “ليت” المجاهرة بالطلب، والمعانقة للمستقبل بكل إمكانياته الممكنة والمستحيلة، والمحققة لقوة حضور الذات إلى درجة الاستعلاء، أو ما يقاربها، كما تحمل ذلك تحقيقات علماء المعاني، وتدقيقات البلاغيين، وتقعيدات النحاة. وكما تحمله تلويناتها داخل العمل السردي بواسطة التوجيه والنصح والسعي والتطلع والأمل. وتكبر في ظلال الحلم المضيء لليل الحالك، والعابث بخيوط دجنته، والناسف لطبقات سواده، والمخلخل لإطباقات صمته. فالحلم بعث لروح الحياة وحيويتها في هدوء السواد وسكونه.

وتحمله تلويناتها داخل العمل السردي بواسطة ما يبذره التوجيه في النفس من روح التحفيز والتشجيع، والدفع إلى الرغبة في التغيير؛ وما يترجمه السعي في الممارسة الواقعية من قطع أشواط، وتجاوز لمراحل؛ وما يرسمه التطلع في آفاق قادمة من طموح، وتوقع لفيوض كرم يحملها المرتقب؛ وما يفشيه الأمل في قابل اللحظات والأيام والأعمار من توقع للتغيير، وترقب للأفضل، وتحقق للمنتظر.

وقد كانت للتمني، مترجما في التوجيه والسعي والتطلع والأمل والحلم، تجليات عديدة في مسار الرواية وأحداثها، وتقلبات أحوال شخصياتها، وانعكاس على أقوالهم وسلوكاتهم، إما بواسطة المعجم (التمني)، وإما بواسطة الموضوع (الحلم).

الزوال والعدم: متمثلا في الفعل “زلتُ”، ومعبر عنه في الرواية بالفقد، والرغبات الموؤودة، والطموحات المفجوعة، والتطلعات المعدمة، ومتمركزا في الموت كشعور ورغبة وفكرة وتحقق. وقد كانت لذلك التجلي، وتلك التغيرات، وهذا التمركز، حضور قوي في العمل، أفكارا وأقوالا وكلمات ووقائع وحقائق. فكثير من الشخصيات أعدمها الموت، وعديد منها أعدمها الإبعاد، وغيرها أبعدها التغييب أو الغياب، وبعضها أعدمها السلوك، أو ردة الفعل، أو الموقف، أو الكلام.

وقد خصصت فصول لوفاة كل من الأم (صص 67. 75)، والأب (صص 145. 161)، ومقاطع لغيرهما: عيشة المجاطية (ص 111 ـ 112) ومريم الزيزونة (ص 109)، وإلماحات عابرة لموت بعض الشخصيات ـ والدا الأب (ص 31 ـ 32، 248) والجد والجدة السعدية من الأم (ص 92) وخال الأم (ص 92)، ووالدة الأستاذ عبد الله (ص 219) ووالدة أحمد السوسي (ص 180، 205) وزوج أمي مينة (ص 184) ـ وتاريخا عاما، دقيقا ومفصلا، للموت في الحي (أول رجل = سعيد الخميسي ـ أول امرأة = أمي الراضية الصوفية ـ أول طفلة = مريم ـ أول طفل = أحمد بن عباس الطنجاوي. ص 118). وكل هذا يجعل من موضوعة الموت موضوعة أساسية في الرواية، ومعجمها معجم ثقيل، يسترعي الانتباه، ويستدعي التوقف.

3- البقاء والإصرار عليه: مركزا في العبارة “لا زلتُ”، مركبة من السلب والإيجاب: من السلب الذي ينقلب إيجابا، حينما يدخل على السلب؛ ومن الإيجاب الذي يحمل معنى السلب في ذاته، فيصبح نفي الزوال إثباتا للوجود. وهو الكفاح الذي حمله أي كائن في الرواية، ولمدة غير يسيرة، على الأقل، من أجل التغلب على كل ما يقهره، ويحاول إسكات إرادته، وإنطاق ضعفه، والتشبث بالبقاء، وإثبات الوجود. وما التمني إلا رغبة قوية معبرة عن كل ذلك. والذاكرة، نقيض النسيان، إصرار على إثبات الوجود، وتنزيل لصورة محورة عن الكوجيتو الديكارتي على صورة: “أنا أتذكر، إذن أنا موجود”. بل حتى النسيان هو الآخر إثبات للوجود، إذا كان في سبيل التخلي عما يقلق، ودفع كل ما يشوش سيرورة الحياة، وبعبارة أعم، إذا كان في سبيل ما يعيق الوجود.

4- النسيان: تأتي تيمة النسيان تيمة قوية في الرواية، حاضرة وبعنف، متلونة بأنواع الحضور، ما دامت الرواية في بداياتها بناء لذاكرة القارئ، وإحاطته بكل ما يلزم، بشكل تمهيدي، وفي وقته المناسب، من أجل أن يحيط بسياقات الحدث المتشابكة. كما أن وجود الشخصيات مبني على هذا، فقد نشأت في واقع، حاولت من خلاله أن تبني ذاكراتها، وأن تنميها من الصغر إلى الكبر، ولا يسلم من ذلك السارد والساردون، فهم يتذكرون ويذكرون كل التفاصيل، التي يريدون للقارئ أن يعرفها، وتكون مفيدة له لفهم صلب الحدث وأبعاده ومغزاه.

كما أنها تحضر بالإيحاب (النسيان)، وبالسلب (الذاكرة)، وتحضر بمرادفات مناسبة كـ”فقد الذاكرة” (لم أذكر – لم أعد أتذكر ـ لم أعرفها)، وبمعجم مهم وفي جميع الصور، بل شكلت عصب الرواية بموت الأم (فقدان ذاكرة البيت الموسوعية)، وفقد الهادي لذاكرته، وتوقف كل شيء لمدة سنة، وتعقد الأحداث، الذي لن يعود للانفراج التدريجي إلا بعد استعادته لذاكرته شيئا فشيئا. مما يدل على أن الذاكرة قطب أساسي في تحريك الحدث وتفعيل مختلف القوى. وقد تجلى الحضور القوي للذاكرة أيضا على مستوى فصول الرواية والعناوين، التي أُعطيت لها (نوستالجيا ـ هوامش ـ وقفة ـ ملاحظة)، والتي كانت جميعها تستوحي الذاكرة وتستحضرها، وعلى مستوى تقنية السرد المعتمدة، إذ كانت تذكرية في الغالب الأعم.

 

العنوان يحدد من التيمات عصب المتن:

ويمكن من خلال حصر هذه التيمات الأساسية في العنوان، وتحديد توغرها في عمق النص، وفعلها القوي والمتحكم، أن نصل إلى فهم أعمق يرى بأن التمني هو النقلة، وسحر التغلب على النقيض. هو مفسر التحول، وميسر الانتقال من أقصى السلب إلى أقصى الإيجاب. وبؤرة العنوان، ومنبعه “ليت”، هو عمقه، وعمق الرواية، إكسير الحياة، وإكسير البقاء، وإكسير النسيان، وإكسير التذكر. إكسير الذاكرة لتحويلها نحو الخمول (النسيان)، بنسيان ما لا يُرغب فيه؛ وتحويلها نحو النشاط والتفاعل (تذكر ما يُعجِب).

وبالموازاة مع ذلك يمكن أن ندلل على هذه التيمات الرباعية من خلال مناسبتها عدديا لتقسيم الرواية إلى أربعة فصول، يسميها الكاتب “إشراقات”، تتناسب تماما من الناحية الموضوعية مع عناصر العنوان التيمية، بطريقة معكوسة، تأخيرا وتقديما، فالتمني “ليت” يرتبط بالأم موضوع الإشراقة الثانية (للشمس ألا تغيب).

والنفي “لا” يرتبط بالعنصر الأول ـ الأب ـ موضوع الإشراق الأولى (للشمس أن تصعد).

والدوام “لا زلت” العنصر الثالث يرتبط بالكتابة الإشراقة الأخيرة (فعل الكتابة).

بينما النسيان “منسيا”، العنصر الرابع والأخير من العنوان، يرتبط بالذاكرة الإشراقة الثالثة، (لي أن أشرق من جديد).

وعلى هذا تقدم رواية “ليتني لا زلتُ منسيا” نفسها، ومن خلال لحظة لقائها الأول مع قارئها ـ أي من خلال عنوانها ـ على أنها رواية الوضوح، التي تحترم نفسها، وتحترم قارءها، فتحدد موضوعها الأساس، وتؤسس أركانه، وتضع بين يدي القارئ خارطة الطريق، وتسند إليه بثقة وثبات دفة المراقبة، ولا تحيد عما انبنت عليه بعد ذلك، من أول الرواية وإلى آخرها، وبذلك فإنها تقول بأنها رواية التعاقد المُلزِم، والتخطيط المُحكَم.

 

وفي الأخير نخلص إلى أن نص رواية “ليتني لا زلت منسيا” لم يكن نصا محايدا، ولا نص الصوت الواحد، بل كان نص مجتمع معين، وفي مرحلة زمنية محددة ـ مرحلة الجيل المغربي المخضرَم، الذي عاش فترة الاستعمار التي طالها الكثير من الزيف، فسميت الحماية؛ وفترة الاستقلال، التي طالها الكثير من الحيف، فلم يُنصف مناضلوها الحقيقيون، ولا أبناؤهم ـ يتحدث عن جيل معيَّن، نضج نتيجة طفرة اجتماعية عاشها المجتمع المغربي ما بين فترة الاستعمار وغشمه، والأزمات الصحية وفظاعتها، التي واكبت الأربعينات من القرن الماضي، فنشأت في ظلها فئة اجتماعية جديدة، فئة الجنود المغاربة الذين اقتطعهم الاستعمار من مجتمعهم الأصيل، وجندهم ضمن قواته العسكرية، الوطنية والمعمِّرة، الحامية والمهاجمة، المؤمنة بالمصلحة والجاحدة للخير، ورماهم في أحضان حضارته المغرية، الماجنة والفاسقة، فبقيت هذه الفئة مقتطعة عن مجتمعاتها حتى بعد عودتها إليها، وعاشت بعقل عسكري متوحش، تُمارس ما مُورس عليها من ديكتاتورية على أسرها وجوارها ومحيطها، فلا تخلف غلا كائنات متوحشة تعيش على الهامش، وتنادم المسكرات والمخدرات، وترتاد السجون. وقليلا ما نجا بعض أفرادها من هذا المصير المأساوي المظلم والظالم، ليساهم في بناء صبيحة الوطن المشرقة.

لقد غادرت تلك الفئة وطنها وبلداتها ووالديها وجذورها وأصولها دون أن تتروى في اتخاذ قرار الرحيل، وتَمَثُّل تبعات الانسلاخ.

فهي بنت حياة الاخرين بينما تهدمت هي.

وساهمت في بناء مجتمعات الأجانب في الوقت الذي ساهمت في خراب مجتمعاتها.

وصانت وجود الآخر ونظمه من حيث ضيعت أسرها وزوجاتها وأبنائها، وماضيها وحاضرها ومستقبلها.

حفظت الكرامة لغيرها، وبالمقابل تجردت هي منها، فلا كرامة، ولا إحساس، ولا إنسانية.

تلك كانت هي الفئة المجتمعية التي عبرت عنها رواية “ليتني لا زلت منسيا”، وكل الأصوات كانت أصوات شخصياتها، ولذلك قلنا عنها أنها لم تكن نصا محايدا، ولا نص الصوت الواحد، بل كانت نص مجتمع معين.

 

ناقد من المغرب

 

 

عن madarate

شاهد أيضاً

عبدالاله الشاهيدي وشعرية  الأحلام المؤجلة في لوحة تعيد النظر في مفهوم الخلق- سعيد فرحاوي

عبدالاله الشاهيدي وشعرية  الأحلام المؤجلة في لوحة تعيد النظر في مفهوم الخلق سعيد فرحاوي   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *