الرئيسية / الأعداد / عبد الحق الزروالي: أيقونة الإبداع ورائد المسرح الفردي في المغرب والعالم العربي- عبد العزيز الخبشي

عبد الحق الزروالي: أيقونة الإبداع ورائد المسرح الفردي في المغرب والعالم العربي- عبد العزيز الخبشي

 

عبد الحق الزروالي: أيقونة الإبداع ورائد المسرح الفردي في المغرب والعالم العربي.

عبد العزيز الخبشي*

 

المسرح هو شكل من أشكال الفنون الأدبية التي تعتمد على الجمع بين التعبير الحركي والكلامي من أجل تقديم تجربة ثقافية وفكرية تهدف إلى إثارة تفكير وتفاعل الجمهور. ومن بين الأشكال المسرحية، يبرز المسرح الفردي الذي يعتمد على ممثل واحد يؤدي كافة الأدوار، مما يشكل تحديا كبيرا للفنان فيما يتعلق بجذب انتباه الجمهور والإبداع في تجسيد الأدوار والشخصيات المختلفة في نفس الآن. يعتبر الفنان المغربي عبد الحق الزروالي من الرواد المتفردين في هذا المجال، حيث ترك بصمة مميزة في المسرح الفردي العربي والمغرب ي. وُلد هذا الفنان في 17 فبراير 1952 بمدينة فاس، حيث عاش طفولته وشبابه المبكر. ومنذ صغره أظهر اهتمامًا بالفنون المسرحية، حيث بدأ مسيرته الفنية من خلال النادي الثقافي لحزب الاستقلال بفاس، وشارك في مسرح الطفل والمسرح الهاوي خلال الفترة الممتدة بين 1961 و1976. وبجانب نشاطه المسرحي، عمل الزروالي في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، واشتغل كمحرر في جريدتي “الأنباء” و”العلم” وكتب في عدة منابر إعلامية أخرى. كذلك، أعد وقدم عدة برامج إذاعية، من أبرزها “إشراقات فكرية” الذي بث لعدة سنوات على الإذاعة الوطنية قبل منتصف الليل. هذه المرحلة التأسيسية شكلت حجر الأساس لمسيرته الفنية، واكتسب خبرات متنوعة في مجالي المسرح والإعلام، وساهمت في تطوير رؤيته الفنية وأسلوبه المتميز في المسرح الفردي.

سنتناول في هذا المقال مميزات وخصائص المسرح الفردي وريادة الفنان عبد الحق الزروالي في هذا الجنس الادبي وخصوصيات أسلوبه الفني لنعرج على أثر وانعكاسات تجربته على المسرح المغربي والعربي بصفة عامة، وعبقرته في التغلب على تحديات المسرح الفردي ونخلص في الأخير الى تناول أحدي تجاربه في هذا النوع من المسرح وهي تجربة مسرحيته “رحلة العطش”.

  1. المسرح الفردي مميزاته، خصائصه وأبعاده:

يشكل المسرح الفردي نوعا من الفنون المسرحية، حيث يتسم بوجود ممثل واحد يؤدي جميع الأدوار على خشبة المسرح، إلى جانب دوره كسارد وواصف. هذا الفن يتطلب قدرات كبيرة في الأداء والتحول والسفر بين الشخصيات والإلقاء، إلى جانب حضور قوي يبقي الجمهور متفاعلا ومندمجا مع العرض. ويعتبر المسرح الفردي أرضا خصبة للتجريب والإبداع، حيث يمنح الفنان حرية من القيود التقليدية ويتفاعل بشكل مباشر مع الجمهور. كما يعد هذا النوع من المسرح تحديا كبيرا للفنان، إذ يعتمد بشكل كامل على قدراته الشخصية في تجسيد القصة وتمثيل الشخصيات المتعددة في النص. مما يتطلب ذلك مرونة جسدية ونفسية تتيح للممثل التحول بين الشخصيات المختلفة بسلاسة دون إفساد تدفق الأحداث. كما يستلزم أيضا إتقانا لاستخدام أدوات المسرح المحدودة، مثل الإضاءة والصوت، لخلق أجواء متنوعة لكل مشهد وجعل الجمهور يشعر وكأنه يعيش عوالم مختلفة.

يتيح المسرح الفردي للفنان فرصة استعراض مهاراته بشكل غير مقيد، حيث يمكنه اتباع أساليب تجريبية في السرد والأداء. وهذا النوع من المسرح يمنح مساحة واسعة للإبداع الشخصي، سواء على مستوى الكتابة أو التنفيذ، مما يجعله أحد أكثر أشكال الفنون تعبيرا عن رؤية الفنان الذاتية. وفي المسرح الفردي، يكون الفنان هو المؤلف والمخرج والممثل في الوقت ذاته، وهذا ما يمنحه سيطرة كاملة تقريبا على العرض، ويسمح له بتوصيل رؤيته الفنية والفكرية بوضوح. فمن خلال التفاعل مع الجمهور، يخلق المسرح الفردي حالة من التماهي بين الفنان والمتلقي. كما أن الممثل الوحيد على خشبة المسرح يكسر الحواجز التقليدية ويستخدم جميع وسائل التواصل المتاحة، مثل الإيماءات والنظرات وحتى الارتجال، لتحقيق تفاعل مباشر وقوي، مما يجعل الجمهور يشعر وكأنه جزء من العرض المسرحي، ويحول العرض إلى حوار حميمي بينما.

لقد تمكن عبد الحق الزروالي من استثمار هذه الخصائص الفريدة للمسرح الفردي، وقدّم أعمالا تجمع بين الشعر والفلسفة والتجربة الحياتية، وهو ما جعل كل عرض من عروضه المتعددة تجربة فكرية وعاطفية فريدة. إذ يتطلب هذا النوع من المسرح قوة داخلية وثقة بالنفس تمكن الفنان من الوقوف بمفرده أمام الجمهور وتحمل مسؤولية إيصال الرسالة بالكامل والتمام، وقد نجح فه بالفعل المبدع الزروالي ببراعة، واعتبر رمزا للإبداع والتفرد في هذا المجال.

  1. ريادة عبد الحق الزروالي في المسرح الفردي.

يعتبر الفنان عبد الحق الزروالي من أبرز مؤسسي المسرح الفردي في العالم العربي. وقد بدأ مسيرته المسرحية في سبعينيات القرن الماضي وقدم أعمالاً تركت بصمة واضحة في المسرح المغربي والعربي. حيث تبنى منذ بداياته أسلوب المسرح الفردي وعمل على تطوير هذا الجنس الأدبي ليصبح جزءا من الهوية الثقافية للمسرح المغربي. وقد تميزت أعماله بتناول قضايا إنسانية واجتماعية بأسلوب فلسفي يغلب عليه التأمل والعمق الفكري، مع التركيز على موضوعات مثل الهوية والتهميش والعدالة الاجتماعية. وقد استخدم الزروالي في أعماله لغة شعرية غنية بالمجاز والسخرية الرمزية، مما جعلها تتجاوز الحدود الوطنية لتصل إلى الجمهور العربي والاوربي بمختلف ثقافاته.

لقد كانت أعماله بمثابة مرآة تعكس التحديات والآمال التي يعيشها الإنسان المعاصر، حيث سعى دائماً إلى معالجة قضايا تتعلق بجوهر الإنسان بغض النظر عن الزمان والمكان. ولعب البعد الفلسفي في أعماله دورا هاما في تعزيز قيم التأمل والتفكير العميق، وتناول موضوعات الهوية والتهميش والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا ما جعل من أعماله منبرا لفتح حوار صادق حول القضايا المجتمعية المعقدة. وبفضل استخدامه لغة شعرية غنية بالمجاز والإيحاءات الرمزية، استطاع الزروالي أن يخلق تجربة مسرحية تجمع بين المتعة الجمالية والتفكير الفلسفي، مما ساعده على جذب جمهور متنوع وتجاوز الرسائل الثقافية لتمس المشاعر الإنسانية العالمية. إن هذا النهج الشاعري الفلسفي هو أبرز سمات أسلوب الزروالي، مما يجعل أعماله محطات للتفكر والتأمل في القضايا الوجودية والحياتية.

لم يكتفِ الزروالي بعرض أعماله على المسارح المغربية فحسب، بل أصر على تقديمها في الساحات العربية، حيث عرضت في العديد من المهرجانات العربية مثل بغداد ودمشق وطرابلس والخرطوم وتونس والقدس والناصرة وغيرها من العواصم الثقافية، وكذا ببعض العواصم الأوربية، ولاقت أعماله تقديرا واستحسانا واسعا من النقاد والجمهور على حد سواء. وأسهم هذا الانتشار في تعزيز وتقوية حضور المسرح المغربي على المستويين العربي والأوربي، وأثبت أن الفن يمكن أن يكون لغة عالمية توحد بين الثقافات وتفتح جسور التواصل بين الشعوب. كما ألهم الزروالي العديد من الفنانين الشباب في المغرب والعالم العربي، وهو ما جعلهم يرون في المسرح الفردي فضاء للتعبير الحر والتجريب الفني. وبفضل جرأته في تناول الموضوعات الصعبة، وطرحه للقضايا المجتمعية بأسلوب يجمع بين العمق الفكري والبساطة الجمالية، أصبح قدوة للعديد من الفنانين الذين يسعون إلى تحقيق تواصل حقيقي مع جمهورهم.

إن النجاح الذي حققه الزروالي لم يكن بسبب أدائه المميز فقط، بل بفضل الرسائل الإنسانية العميقة التي سعى إلى إيصالها من خلال أعماله، والتي حملت أبعادا فلسفية واجتماعية، تهدف إلى إعادة التفكير في الواقع وتحفيز الجمهور على رؤية القضايا من زوايا جديدة. وجعلت هذه الرسائل من أعماله أكثر من مجرد عروض فنية، بل تجارب حياتية عميقة. وقد كان لحضوره في المهرجانات المسرحية الكبرى، مثل مهرجان قرطاج بتونس، دور كبير في نقل صورة المسرح المغربي إلى العالم العربي، وهذا ما عزز مكانة هذا الفن على المستوى العربي. وبفضل قدرته على التكيف مع الثقافات المختلفة وتوصيل رسائله بطريقة تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، استطاع الزروالي أن يكون سفيرا للمسرح المغربي والفن العربي بشكل عام. ولم تتوقف ريادته في المسرح الفردي عند حدود الأداء والتمثيل، بل شملت تطوير النصوص المسرحية وابتكار أساليب جديدة تتناسب مع طبيعة هذا النوع من المسرح. حيث كان دائما يسعى إلى تقديم كل ما هو جديد ومبتكر، وهذا ما جعله فنانا متجددا ومؤثرا في الساحة المسرحية المغربية والعربية.

  1. خصوصية الأسلوب الفني عند عبد الحق الزروالي.

يتميز أسلوب عبد الحق الزروالي في المسرح الفردي بالاعتماد على البساطة الظاهرية في الأداء مع عمق فكري في المحتوى الذي صنعه بنفسه لنفسه. حيث يجمع بين الحكمة الشعبية واللغة الفصيحة، ويستغل الإمكانات الجسدية والصوتية للتعبير عن مشاعر الشخصيات وأفكارها، زهو ما يمنحه قدرة استثنائية على توصيل الرسائل المباشرة والضمنية، ليجعل الجمهور يشعر وكأنه شريك في التجربة المسرحية. وقد اعتمد الزروالي في العديد من أعماله على الحوار الداخلي والتفكير بصوت عال، مما يمنح الجمهور فرصة للدخول في عالم الشخصية وفهم صراعاتها الداخلية. وهذا الأسلوب يشكل تحديا كبيرا للفنان، حيث يتطلب حضورا ذهنيا قويا وقدرة على التعبير بصدق وعفوية، مما يتيح للجمهور فرصة نادرة للتوغل في دواخل الشخصية المسرحية والتعرف على مشاعرها وأفكارها بشكل مباشر وصادق. ويعتبر الحوار الداخلي جزءا هاما من بناء الشخصيات عنده، حيث يكشف عن أبعاد نفسية معقدة وصراعات داخلية تجعل الشخصيات أكثر قربا من الجمهور. ويعكس هذا الأسلوب فلسفته في تقديم المسرح الفردي كأداة للتأمل في النفس الإنسانية وفهم دوافعها وتناقضاتها.

إن البساطة الظاهرية التي يعتمدها الزروالي لا تعني غياب التعقيد الفني، بل هي تبسيط معقد يهدف إلى إيصال الرسالة بشكل واضح وسهل لكل المتلقين. حيث يستخدم الزروالي جسده وصوته كأدوات تعبيرية قوية، مستغلا كل الإمكانيات المتاحة للتعبير عن مشاعر متباينة ومتناقضة. وفي لحظة واحدة يمكنه أن يكون ساخرا وحزينا، ومستفزا ومتأملا وغاضبا، وهذا يتطلب منه مرونة فائقة في الأداء. إن هذا التنوع في التعبير يسمح للجمهور بمشاهدة تحول الشخصيات وتغير حالاتها النفسية، وهو ما يخلق تجربة مسرحية غنية تتجاوز حدود الأداء التمثيلي التقليدي. كما يتميز الزروالي بحضور ذهني يجعله قادرا على التعامل مع اللحظات الارتجالية بمهارة، ويضفي على العمل طابعا حيويا ومباشرا، ويجعل الجمهور يشعر وكأنه جزء من العملية الإبداعية. إضافة إلى ذلك، يُضفي استخدامه للحوار الداخلي بعدا فلسفيا على أعماله، مما يجعل المسرح وسيلة للتفكر والتساؤل حول الوجود والمعنى. إذ يتطلب هذا النوع من المسرح الجمهور أن يكون مشاركا فعالا، ويدعوهم إلى التفكير والتأمل فيما يقدّم على خشبة المسرح. وبهذا الأسلوب، يحقق الزروالي تواصلا عميقا مع جمهوره، ويجعل من المسرح الفردي تجربة تفاعلية تضفي على العرض قيمة فكرية وفنية تتجاوز مجرد المشاهدة.

  1. أثر وانعكاسات تجربة عبد الحق الزروالي على المسرح المغربي والعربي.

لعب الفنان عبد الحق الزروالي دورا محوريا في إرساء دعائم المسرح الفردي في المغرب والعالم العربي من خلال مجموعة من الأعمال المسرحية التي تركت أثرا كبيرا في الساحة الفنية. ومن أبرز أعماله: “الوجه والمرآة” (1976)، وهو أول أعماله التي رسخ من خلالها أسلوبه المتميز في المسرح الفردي. ثم “صالح ومصلوح” (1979) التي تناول فيها قضايا اجتماعية بأسلوب ساخر. و”ضريبة العشق” (1980) وهي استكشفت لمفهوم الحب وتبعاته، بينما “شجرة الحي” (1980) تناولت علاقة الإنسان ببيئته ومجتمعه. أما “جنائزية الأعراس” (1982) فكانت معالجة درامية لمفارقات الحياة والموت، و”رحلة العطش” (1984) مثلت عملا فلسفيا يرمز فيه العطش إلى البحث عن الحقيقة والمعرفة. كما قدم الزروالي أيضًا “عكاز الطريق” (1985) التي تصور صراع الإنسان مع تحديات الحياة، و”سرحان المنسي” (1986) التي سلطت الضوء على قضايا التهميش والنسيان، و”برج النور” (1986) التي تناولت مفهوم النور كرمز للمعرفة والوعي. ثم “افتحوا النوافذ” (1992) التي دعت للانفتاح على العالم والأفكار الجديدة، و”زكروم الأدب” (1993) التي قدمت نقدا ساخرا للمشهد الأدبي والثقافي، و”انصراف العشاق” (1994) التي تناولت موضوع الحب والفراق. كما تناولت “عود الريح” (1996) صمود الإنسان أمام تقلبات الحياة، بينما كانت “عتقوا الروح” (1997) دعوة للتحرر من القيود النفسية والاجتماعية. ثم مسرحية “كدت أراه” (2001) وهي استكشفت لمفهوم الرؤية والبحث عن الحقيقة، في حين أعادت “هاملت مرة أخرى” (2004) قراءة مسرحية “هاملت” بأسلوب معاصر. و”رماد أمجاد” (2006) كانت تأملا في زوال الأمجاد والبحث عن المعنى. أما “البطل الهارب الميت” فتناولت مفهوم البطولة والهروب من الواقع، و”واش فهمتي” (2009) قدمت نقدا اجتماعيا بأسلوب ساخر، بينما “كرسي الاعتراف” (2011) شكلت استكشفتا لمفهوم الاعتراف والبوح. وقدمت “انقب واهرب” (2013) تصويرا لصراع الإنسان مع القيود والبحث عن الحرية، وتناولت “الطيكوك” (2016) قضايا اجتماعية معاصرة، وتعتبر “آش سمّاك الله” (2017) استكشافا لمفهوم الهوية والتسمية.

إن هذه الأعمال تعكس تنوع المواضيع والأساليب التي اعتمدها الفنان عبد الحق الزروالي في مسيرته المسرحية، حيث جمع بين العمق الفكري والبساطة في الأداء، وهو ما جعله منه أحد أبرز الأسماء في المسرح العربي، وألهم بتجربته الرائدة هذه العديد من الفنانين الشباب لتبني هذا النوع من المسرح الذي يتيح لهم حرية التعبير عن أفكارهم وتوجهاتهم. واستطاع عبر تقديم مجموعة من عروضه ذات طابع فلسفي واجتماعي، أن يخلق حالة من الوعي الفني بين الجمهور والفنانين الشباب، وهو ما ساعد في تطور الحركة المسرحية الفردية بشكل ملحوظ في المغرب والعالم العربي. كما لاقت أعماله تقديرا واسعا في مختلف المهرجانات المسرحية العربية، وقد مثل المسرح المغربي بجدارة على الساحة العربية والدولية، ليس مجرد ممثل يقدم عروضا، بل سفيرا للثقافة المغربية، واستطاع بذلك أن ينقل قضايا محلية بلمسة إنسانية عربية، وهذا ما جعل الجمهور العربي يتفاعل بسهولة مع مضامين أعماله. ونجح في تقديم المسرح الفردي كوسيلة تعبير قوية تعكس هموم الفرد وتطلعات المجتمع، متجاوزة الحدود الجغرافية.

إن حضور الزروالي القوي على خشبة المسرح جعل من كل عرض يقدمه تجربة غنية يشارك الجمهور في تفاصيلها، وهذا ما عزز وقوى من مكانة المسرح الفردي كنوع فني قادر على التواصل المباشر والمستمر مع المتلقي. كما أن نجاحه لم يأتِ في المهرجانات العربية والدولية فقط بفضل إتقانه لفن الأداء الفردي، بل بفضل عمق الرسائل الإنسانية التي حملتها أعماله، والتي عبرت عن الصراعات الداخلية للإنسان وطرحت تساؤلات حول الوجود والعدالة والحرية. فهذا البعد الإنساني هو الذي جعل أعماله تتجاوز المحلية لتصل إلى الجمهور العربي والعالمي ويتفاعل مع هذه القضايا بشكل مباشر. وقد لعب الزروالي أيضًا دورا كبيرا في تطوير النصوص المسرحية وتقديمها بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق. ولم يقتصر تطويره لهذه النصوص المسرحية على الحوار فقط، بل شمل استخدام الجسد، والصوت، والإضاءة لخلق عوالم مسرحية متعددة عبر ممثل واحد. وجعل هذا الأسلوب المسرح الفردي تجربة متكاملة تتجاوز الأداء التقليدي، وتدعو الجمهور للتفكير والتأمل. كما أسهم في ترسيخ فكرة أن المسرح ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل هو أداة للتغيير الاجتماعي والتفكير النقدي. وذلك عبر تناوله للقضايا المجتمعية والفلسفية بعمق، ونجح بالتالي في جعل المسرح الفردي منصة لطرح الأسئلة وإثارة النقاشات حول معنى الإنسانية في هذا العالم، وهذا ما جعل من أعماله رسائل تتجاوز الفن إلى دعوات للتغيير والتأمل.

إن تجربة الفنان عبد الحق الزروالي في المسرح الفردي غنية ومعقدة، تعكس التزاما فنيا وفكريا بتقديم مسرح ذي قيمة حقيقية، وتشكل تحديا لكل من الفنان والجمهور. وهذا الالتزام بالبحث عن الحقيقة وتقديمها في إطار فني مبدع هو الذي جعل منه شخصية يحتذى بها ومصدر إلهام للعديد من الفنانين الذين يطمحون إلى السير على خطاه وتقديم مسرح يحمل طابعا إنسانيا عميقا. حيث لم يكن حضوره العربي والعالمي مجرد وسيلة لتعريف العالم بالمسرح المغربي، بل كان فرصة لخلق تفاعل ثقافي متبادل، وهو تأثر الجمهور العربي والعالمي بطبيعة القضايا التي يعالجها، والتي تتميز بكونها إنسانية وعالمية في الوقت ذاته. وهنا حصل على تقدير واسع من النقاد والجمهور على حد سواء، بفضل جرأته في تناول الموضوعات الصعبة وإتقانه لفن الأداء الفردي. وكانت هذه الجرأة دعوة للفنانين وخصوصا الشباب منهم لكسر حاجز الخوف من تناول الموضوعات الحساسة، مما صار قدوة ومصدر إلهام لأولئك الذين يسعون إلى تقديم عروض جريئة ومؤثرة. وعبر أسلوبه الخاص، أسهم في تعزيز وتقوية مكانة المسرح الفردي وجعله وسيلة فعالة للتعبير عن القضايا الاجتماعية والإنسانية.

  1. عبقرية عبد الحق الزروالي في التغلب على تحديات المسرح الفردي.

يعد الفنان عبد الحق الزروالي من أبرز رواد المسرح الفردي في المغرب والوطن العربي، وهو نوع مسرحي يعتمد كما سبق على أداء فرد واحد لكافة الأدوار، وهذا يتطلب من الفنان مهارات استثنائية في التحكم بالحركات والتعبيرات الصوتية والجسدية، إلى جانب القدرة على التواصل الفعال مع الجمهور. وقد كان لهذا النوع من المسرح تأثير بارز في إعادة تشكيل تجربة المسرح المغربي والعربي، حيث أتاح للفنانين فرصة التحرر من قيود الفرق المسرحية التقليدية وفتح أمامهم مجالا واسعا للحرية الإبداعية. ومن خلال مسرحه الفردي، تمكن الزروالي من استكشاف قضايا إنسانية متنوعة وجريئة، تناولت موضوعات اجتماعية وثقافية وسياسية، وهو ما فتح المجال أمام تساؤلات عميقة حول القيم، والهوية، والتغيير الاجتماعي. إذ لم تكن أعماله مجرد ترفيه، بل مثلت مرآة للواقع وأثارت النقاش حول قضايا معاصرة، متجاوزة بذلك دور الترفيه إلى دور ثقافي وتنموي في المجتمع.

وفي الجانب الفني، أبدع الزروالي في توظيف تقنيات المسرح الفردي، مثل استخدام الحوار الداخلي والمونولوج، والاعتماد على الحد الأدنى من الديكور والإكسسوارات، وهو ما أضفى على عروضه بساطة وسهولة في التنقل، وجعلها قابلة للعرض في مختلف الفضاءات، سواء في المسارح التقليدية أو المفتوحة. إن هذا القرب من الناس أتاح له الوصول إلى شرائح واسعة من الجمهور، بما في ذلك الفئات التي لم تكن معتادة على متابعة المسرح. ومن خلال مشاركاته في المهرجانات المسرحية العربية والأوربية، نجح في نقل صورة إيجابية عن المسرح المغربي، وأثبت قدرة الفنان المغربي على تقديم أعمال ذات مستوى فني وجريء. كما أن التقدير الذي ناله من النقاد والجمهور يعكس مدى تأثيره وقدرته على إيصال رسائل عميقة بمهارة فنية عالية. إذ لم يكن هذا النجاح فردياً فقط، بل ساهم في دفع حركة المسرح الفردي في المغرب وفي الوطن العربي قدما، وألهم جيلا جديدا من الفنانين الذين رغبوا في تبني هذا النوع من المسرح كوسيلة للتعبير الحر عن قضاياهم وأفكارهم. كما أسهم، بشجاعته واستمراريته، في تحويل المسرح الفردي من فن هامشي إلى منصة حقيقية للتعبير والإبداع. وبناءً على ذلك، يمكن القول إن دور عبد الحق الزروالي لم يقتصر على الأداء المسرحي، بل كان رائدا ثقافيا وملهما فنيا، استطاع تحويل المسرح الفردي إلى وسيلة فعالة للتعبير عن قضايا المجتمع والتأثير فيه، وفتح للفنانين المغاربة والعرب آفاقا جديدة للإبداع والتواصل الثقافي على المستويين المحلي والعربي والدولي.

  1. نموذج المسرح الفردي لعبد الحق الزروالي: مسرحية “رحلة العطش”.

من بين أبرز أعمال الفنان عبد الحق الزروالي في المسرح الفردي تأتي مسرحية “رحلة العطش”، حيث أظهر من خلالها قدراته الاستثنائية في التمثيل والإلقاء والتفاعل مع الجمهور. وقد جسد في هذا العمل شخصية رجل يبحث عن الماء، والذي يتحول إلى رمز للبحث عن الحقيقة والمعرفة، وهو ما أضفي على العمل بعدا فلسفيا يتجاوز مفهوم العطش المادي. ويعكس هذا البحث صراع الإنسان مع ذاته ومع العالم من حوله في سبيل إيجاد إجابات لأسئلة الوجود والمعنى. واستخدمه في “رحلة العطش” لمجموعة من الأدوات التعبيرية، جعل من العرض أن يرقى

ويسمو الى تجربة حسية متكاملة. وجسد مشاعر العطش واليأس والأمل بحركاته الجسدية، كما استطاع تجسيد المعاناة البشرية بصريا، وهو ما لامس مشاعر الجمهور بعمق. لقد كان للصوت دور أساسي في العمل، حيث استثمر نبرات صوته المختلفة للتعبير عن تحولات الشخصية النفسية، من التأمل والهدوء إلى الصراخ واليأس، مما أضاف أبعادا عميقة للشخصية المسرحية. كما لعبت الإضاءة أيضا دورا أساسيا في خلق الأجواء الدرامية في “رحلة العطش”. وعبر تغيير الإضاءة، عكس الزروالي التحولات في رحلة الشخصية من الظلال الداكنة التي تعبر عن الضياع والعطش إلى الأضواء الساطعة التي تشير إلى لحظات الأمل والإدراك. إن هذا الاستخدام الذكي للإضاءة أضفى بعدا بصريا عزز وقوى من الرسائل الفلسفية التي يحملها العمل.

لقد تمكن الفنان عبد الحق الزروالي في “رحلة العطش” من تحويل العطش إلى موضوع فلسفي يتناول قضايا تتعلق برحلة الإنسان نحو الوعي والكمال. ولم يكن العطش هنا مجرد حاجة فيزيولوجية، بل رمز للعطش إلى المعرفة والحقيقة. حيث قدمه كقوة دافعة تواجه الإنسان بالتحديات وتحثه على الاستمرار رغم العقبات. واستطاع بأسلوبه الفريد أن يخلق حالة من التماهي بين الجمهور والشخصية، وجعله يشعر وكأنه يشاركه هذه الرحلة، يعان معه ويأمل في الوصول إلى الهدف. كما أن “رحلة العطش” لم تكن مجرد مسرحية، بل تجربة فلسفية تدعو الجمهور للتفكر في معنى الحياة والبحث عن الذات. وعبر استخدمه للعطش كرمز لحاجة الإنسان الدائمة لاكتشاف المجهول وفهم العالم من حوله، جعل العمل رحلة استكشافية للنفس والعالم، تحمل الكثير من التساؤلات حول الوجود والمعرفة. وهو ما أظهر من خلال هذا العمل كيف يمكن للمسرح الفردي أن يكون وسيلة فعالة للتعبير عن القضايا الفلسفية والإنسانية، حيث قدم عرضا يلامس أعماق النفس البشرية ويدفع الجمهور للتأمل والتساؤل، وجعل من تجربة “رحلة العطش” واحدة من أهم أعماله وأكثرها تأثيرا، وأبرز مثال على قدرته على المزج بين الفن والفكر في قالب مسرحي مؤثر.

خلاصة.

في الختام، يعتبر عبد الحق الزروالي من أعمدة المسرح الفردي العربي، الذي نجح في تحويل هذا الفن إلى منصة لطرح قضايا المجتمع والفرد بأسلوب مؤثر وراقٍ. واستطاع بفنه أن يجسد روح المسرح الفردي، حيث تتداخل حدود الواقع بالخيال، وتتناغم الكلمة مع الحركة لتقديم تجربة مسرحية ثرية ومعبرة. وبفضل إبداعه وإصراره على تقديم مسرح جريء ومختلف، أصبح رمزا للتجديد والتميز في المسرح المغربي والعربي، ومصدر إلهام لكل من يسعى للإبداع والتفرد في عالم الفن.

إن ما يميز تجربة عبد الحق الزروالي هو قدرته على الجمع بين البعد الفكري والفني في أعماله، مما جعل المسرح الفردي أداة للتفكير والتغيير. وهذا الفن، الذي يتطلب من الفنان القوة والشجاعة لتقديم أداء متكامل دون دعم من زملاء، وجده الزروالي وسيلة للتعبير عن أعمق القضايا الإنسانية بأسلوب فني فريد. وأثبت بالتالي أن المسرح الفردي يمكن أن يكون قويا ومؤثرا بقدر أي شكل من أشكال الفنون المسرحية الأخرى، بل وأداة فعالة للتواصل العميق بين الفنان وجمهوره. كما أن إرث عبد الحق الزروالي في المسرح الفردي سيظل مصدر إلهام للأجيال القادمة من الفنانين، حيث يمثل الجرأة في الطرح، العمق في المعالجة، والإبداع في الأداء. وقد حفر اسمه في ذاكرة المسرح العربي كأحد الرواد الذين تحدوا المألوف وقدموا فنا يحمل رسالة ويدعو إلى التفكير، مما يجعل من مسيرته الفنية نموذجا يحتذى به لكل من يؤمن بقوة الفن في إحداث التغيير.

 

كاتب من المغرب

 

 

 

عن madarate

شاهد أيضاً

أمسية تكريم فعاليات نسائية ضمن أمسية شعرية رمضانية تخليدا لليوم العالمي للمرأة – حسناء آيت المودن

أمسية تكريم فعاليات نسائية ضمن أمسية شعرية رمضانية تخليدا لليوم العالمي للمرأة حسناء آيت المودن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *