الشيخ محمد الجحيباق: منارة علمية راسخة، وأدوار تربوية ومجتمعية شامخة.
أجدور عبد اللطيف*
منذ بزغت شمس الإسلام على بلاد المغرب، وهذه الربوع تجود على الحضارة الإسلامية بالإنتاجات الفكرية والعلمية الحصيفة، وتسابق وتسبق المشرق في التأليف والتصنيف، شملت تلك الإنتاجات الغنية علوم الدين والدنيا. يغني ذكر بعض الأعلام في مختلف أصناف علوم الشرع وبحور العلم عن تتبع الشواهد التاريخية المتعاضدة لتقرير هذا المعنى، وما يزال بحمد الله ذاك المعين معطاء لا ينضب، حيث بقية من العلماء والمشايخ المغاربة يواصلون حفظ العلم ويواصلون به الأجيال الفتية، تبليغا لهذه الرسالة الجليلة.
اشتهرت منطقة شمال المغرب، خاصة قبائل اجبالة، بانتشار دور حفظ القرآن الكريم، حتى إنك لا تكاد تجد منزلا يخلو من حافظ، وتميزت كذلك بإكرام العلماء والصلحاء والعارفين، ويقصر المقام هنا عن ذكر جميع من أنجبتهم هذه الرقعة الجغرافية من أئمة صان الله بفضلهم كتابه، وضمن عبرهم لشرعه وسنة نبيه الامتداد والاستمرار. لا يسعنا في هذا السياق، إلا أن نتحدث عن أحد أولئك الأعلام، ونقصد هنا الإمام العلامة، والشيخ المبارك سيدي محمد الجحيباق، مشرف مدرسة سيفودة للتعليم العتيق بدائرة بواحمد، جماعة اسطيحة إحدى الصروح العلمية التي ما تزال تخرّج كل سنة من الحفاظ والطلبة الأفذاذ الكثير الوفير، بفضل حسن تدبير مشرفها، وما أجرى الله على يديه من التوفيق والبركة.
رأى سيدي محمد بن محمد عبد السلام بن أحمد الجحيباق النور بتاريخ 25-02-1971 بمدشر ميصرة قبيلة بني عروس جماعة بني عروس إقليم العرائش من أمه فطمة محمد الصادق الوهابي. هناك حيث تتيح البادية صفاء الذهن، وتوقد الذاكرة، تعلم بمسيد القرية الكتابة والقراءة، على يد الفقيه عبد السلام الوهابي، وحفظ على يده القرآن الكريم، كما أتم معه سبع ختمات برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق وهي الرواية المعتمدة في بلاد المغرب، قام بتصحيح القراءة على يديه، وعلى يدي الفقيه عبد السلام الوهابي من مدشر عين الحديد كذلك.
رحل الشيخ محمد الجحيباق، ما دام طلب العلم مبتغى تشد إليه الرحال، وفارق الأهل والبلاد نحو مدشر اكرسان بداية، حيث عهد به إلى الشيخ أحمد العمراني، حيث درس عليه الجرومية، وألفية ابن مالك، وأوضح المسالك، ومنظومة ابن عاشر، وفرائض الشيخ خليل، والاستعارة وشرح البردة، والعامية، ولامية الأفعال، وتفسير دي الجلالين. وغير ذلك كثير من أمهات الفقه المالكي، والتفسير والحديث.
انتقل خلال محطة تالية من مسار التحصيل العلمي المبارك، إلى قيرة خندق الزرزور بقبيلة الفحص قيادة أربعاء عين الدالية، فتلقى بقية العلوم الأخرى على يد الشيخ عبد العزيز المرابط في مدة قصيرة، توجه بعدها صوب قرية السانية قرب طنجة البالية، هناك درس بالإضافة إلى العلوم السابقة، ورقات إمام الحرمين، ومنها إلى قرية قرب واد اليان حيث كان الشيخ مصطفى الساوي يشرف على الطلبة ويقيم على تلقينهم مختلف المعارف الشرعية، وكذا الشأن بالنسبة لسيدي محمد الجحيباق الذي أخذ عنه ألفية ابن مالك من أولها إلى ما لا ينصرف، ثم ابن عاشر، ولامية الأفعال، والجرومية، والمنطق وعكف على ذلك حتى متم عام 1988م.
كانت سنة 1988م بداية مرحلة جديدة، تميزت بالتعمق أكثر في تحصيل علوم الدين، حيث حط الشيخ رحاله بقرية المنار، فدرس على الشيخ محمد عبد الرحمان مرصو علوم اللغة من نحو وصرف، كما زاد تعميق معارفه في ما يتعلق بالفقه والعبادات، تولى شيخه هناك تلقينه علوم البلاغة والأصول أيضا، حيث انقطع إلى دراسة أهم المصنفات في هذا الصدد، مثل مفتاح الوصول، وجمع الجوامع، وورقات إمام الحرمين، وعلم الوضع المقنع، إضافة إلى مزيد من التخصص في التفسير ومصطلح الحديث، واللغة.
خلال تواجده بقرية المنار التقى الإمام الجحيباق بالشيخ العلامة عبد الله بن الصديق وأخذ عنه بعض الفوائد في نيل الاوطار للشوكاني. كما كانت إقامته هناك فرصة ليحتك بعدة مشايخ، من أبرزهم الشيخ محمد بنعجيبة، والشيخ عبد المجيد المدرس بقرية فدلن شبو، والشيخ عبد العزيز بن الصديق، وكثير من العلماء الجهابذة الذين تبرك بمجالسهم، واهتدى بسيرهم.
بعد تلك المسيرة الحافلة من التعلم، وشحذ الهمة للتحصيل والمعرفة، جاءت مرحلة التبليغ والأداء، حيث عرض على الشيخ محمد الجحيباق في شتنبر من عام 1993م، إمامة وخطابة وتدريس الناس، وذلك بقبيلة بني سدات من قرية الياسنا، فالتزم معهم على ذلك ومكث لديهم ست سنوات، وخلالها تفرغ كذلك لدراسة ألفية ابن مالك خمس مرات، وترسيخ واستذكار غيرها من العلوم، حيث كان مؤمنا بأن مسيرة العلم لا تتوقف إلا بتوقف مسيرة الحياة. لما أذن الله تعالى بمرحلة جديدة، سار الشيخ إلى مؤسسة الإصلاح ورش ببركان، للتدريس بها، مع أنه لم يعمر بها كثير، لبعد المسافة عن الأم، والأسرة، وما يرتبط بها من متعلقات. فعاد إلى المنطلق، شيخا راسخا بعدما تركها صبيا يحركه العلم وتدفعه المعرفة، إلى مركز قبيلة بني عروس، إذ عين بها خطيبا ومدرسا للطلبة لمدة ثلاث سنوات، شاءت الأقدار الإلهية، لاحقا، أن ينتقل إلى قبيلة غمارة، إماما ومدرسا للعلوم الشرعية، بمدرسة سيفوذة للتعليم العتيق، منذ سنة 2003م إلى اليوم حيث يشغل منصب المشرف عليها.
يعتبر العلامة محمد الجحيباق، واحدا من قلة باقية، من أئمة العلم بشمال المغرب، وعلما من أعلامه، وقد جمع بين العلم الغزير والاطلاع الواسع على أصول وفروع علوم الدين، وبين قوة الخطاب وبلاغته، وجمال الأسلوب، وحسن التبليغ. يتخذه طلبته والأساتذة المشتغلون معه، وكذا سائر الأعوان وأهل المنطقة قدوة تحتذى في العلم والحكمة، وشخصية تضع رجل الدين في منزلة غاية الرقي والسماحة. ما جعل من المؤسسة التي يشرف عليها وجهة مفضلة لطلبة العلم يقصدون إليها من مختلف المداشر والقرى.
حباه الله (وهي شهادة أُسأل عنها) بخفض الجناح، ولين الجانب، وسمح المعاملة، وطيب المعشر، وبلاغة القول، وحسن النصح، ووفرة الزاد المعرفي والمعاملاتي، كل ذلك جعله عالما ربانيا، وبيداغوجيا مميزا، ومسيرا حكيما، وقدوة لمن حوله، تقبل الله منه سائر الأعمال والمجهودات، وزاده قبولا وفتحا، ومتعه بالصحة.
كاتب من المغرب