قصص قصيرة
محمد محمود غدية
أطياف وخيالات
1
موج البحر في تدافعه وصخبه، يشعل طنينا في أذنيه، يقتحم الوهن أيامه، تخبو شعلة فؤاده وتنكسر، يطل من شباك البحر،
الطيور أشبه بالأشباح المتجمعة بين ثنايات السحب الداكنة، اختفت الشمس حجبتها غيوم ثقيلة، نفض عن معطفه ندف الثلج البلوري، وفوق مقعد رخامي استسلم لسلطان النوم الطاغي، بعد فشله في الرحيل إلى بلاد أخرى وبحار أخرى، تتبعه مدينته وقطع الليل المظلم، كل المطارات التي هبط إليها غير مرحبة به، يحكى للبحر عن رجل وامرأة في رقة السوسن وقامة الخيزران،
كانا يمران عبر الضوء الضبابي الشاحب وصخب الموج، انكسرا قبل بلوغهما النهر وغابا، بين نجوم آفلة وسحب داكنة في السواد .
2
الكتابة تعبير عن الفرح والألم،
يخفف من وطأته البوح على الورق، بديلا عن الكبت والجنون، الشمس تغسل البيوت والشوارع المتربة المنبسطة، فتاة ثلاثينية تتهادى في خطواتها عشق،
لا تستطيع جاذبية الأرض على الإمساك بها، جمالها شديد الخصوصية، تتبعها عيون الجالسين في المقهى، تأكلها وبعدها يأكلون قوائم المناضد والمقاعد وهم حيرى، لها حضور طاغ لافح، يباغت من يتعرض له ويجرده على الفور من كل أسلحة الدفاع عن النغص، الشاعر وحده هو من لمح الآسي العميق في حدقتيها إحتار في تفسيره، شرع في الكتابة متخليا عن تأمل الأشياء والموجودات من حوله، تسحبه الثلاثينية إلى عمق لا نهائي، وتسير على مهل في بهو روحه، تشبه بهاء الحلم، وتفجر بركان الشعر على الورق وتمضي، ويبقى وقصيدته وحيدين .
3
قلبان مرسومان على جذع شجرة عجوز، حفرا بآلة حادة، في المقهى تجلس حسناء تمسك بكوب الشاي، تحف بها من كل جانب أطياف وخيالات من الزمن الغابر، أخرجت من حقيبتها بضعة أوراق وقلم، وتكتب، الكتابة تتمدد وتتشعب كاللبلاب، النادل يضع فنجان القهوة الثاني
فلا تراه، تركض بين السحاب تغازل النجوم، عيناها بوابتان للقمر، حزمت في حقيبتها الأوراق، وحلمها لرجل مرتقب لا يأتي .. وتمضي
الرحمة
في إعلان على الفيس كتب فيه رقم هاتفه، ورغبته في بيع تليفزيون حديث ومروحة إستاند، وغرفة نوم دون السرير، مع أول متصل حددا موعد الشراء، المشتري جهز سيارته النصف نقل، بداية لرزق يوم جديد، أوقفه أحد المارة، طالبا توصيله للمستشفى التي يجري فيها غسيل الكلى، لأنه لا يقوي على السير، وصله للمستشفى
بعد أن غير اتجاهه، ليذهب بعدها إلى حيث ينتظره البائع، وجده كهل أبيض الشعر، نحيل البدن في وجهه تجاعيد وحفر السنين، طلب البائع من المشتري في الأشياء المباعة، مبلغ ستة آلاف جنيه،
ضحك المشتري قائلا : انا من يحدد سعر الشراء،
عاجله البائع بقوله : انها قيمة ما أدفعه للمستشفى التي سيجري فيها بنى الوحيد عملية جراحية، على الفور اخرج مبلغ الستة آلاف جنيه أعطاها للكهل قائلا : لن اشتري شيئا، وقد رأيت احتفاظك بالسرير في غرفة النوم، وبيعك للمروحة ونحن في شهور صيف ساخنة، لم نشهد مثلها في ارتفاع درجات الحرارة، والتليفزيون تسليتكم الوحيدة، سأله عن أم الولد ؟
أجابه : برحيلها منذ سنوات ثلاث، صحبه إلى المستشفى في سيارته النصف نقل، قائلا : لا تشغل بالك بالنقود الآن، ردها حين ميسرة، تليفوني عندك، لمح دمعة تتشكل في عين الكهل، لم تذرف بعد، تنتظر بلوغ الممر حتى تفر، لم يفلح في إمساكها،
في منزله وجد جمهرة من الناس والجيران، علم أن ولده أثناء لعبه الكرة صدمته سيارة مسرعة، طوحته على الأسفلت مسافة المتر، تصادف مرور سيارة تقودها طبيبة، توقفت وترجلت من السيارة وكانت لديها حقيبة إسعافات أولية، أوقفت نزيف الدم وأسعفت الطفل الذى تعافى، لم يرى الوالد الطبيبة الطيبة التي ساقتها الأقدار في هذا التوقيت ليشكرها ، بعد أن اطمأن على سلامة ابنه .
قاص من مصر