هَلَّ الهلال… (2/ 2)

المختار النواري

 

هل علينا الفطر فأهلا بالهلال..

هل علينا الفطر بطلعته البشوشة متهللا..

فهلت أسارير العباد بحسن البشر، وتطلعت إلى حلاوة الفطر..

هل علينا هلال الفطر فأنار الفضاء، وازينت السماء..

واستنارت الوجوه في الأرض..

هل الهلال فازدانت السماء بقوس فضي..

أو بحاجب لمّاع، أو بثغر مضيء..

قد رأيت أنا فيه هذا، وللرائي أن يرى في صورته ما يريد، وله من فسحة الخيال ما يملأ مدّ البصر من الأرض إلى السماء. وما يغطي به الامتداد من الحجر إلى الماء، وما يساعده على صروف الحياة من أدوات يستعين بها، ووسائل يعتني بها، لعله يمر بين صعابها مرور الهلال في السماء، أو ينسل في سلوكه بين مطباتها انسلال الهلال بين الغيوم.

 

الهلال في الأدب:

وقد كان للهلال حضور قوي في الأدب، يسوقه آنا في المعنى، ويجمّل به أحيانا الخيال، ويزيّن به مرات ألفاظا. فقد يسوقه بين يدي القارئ في معاني، تتخذ سياقات مختلفة، وتحاول أن تقتبس شيئا من بهائه، وتستضيء بشيء من نوره، وتعتلي بمرقاة من اعتلائه، كما قد يسوقه في أخيلة، تستحضر منه الصور، وتستمد منه الإعارات، وتتلبس منه بالإشارات، وقد تتقمص منه ألفاظا، تتراقص بها أصواتا، وتترنم بها موازين وإيقاعا. والكلام في كل ذلك يشتد مرة بين أجواق الفرح، وأشكال المرح، وينجر أخرى بين غيوم الغم، وتلافيف الهم، ويلون به كل الأهلة، رمضانية كانت أم عيدية.

 

بين أفول وقفول:

يفرح المفطرون بطلوع هلال الصيام، ويشدون العزم على اهتبال فرصة الصيام للتقرب إلى الله عز وجل بالعبادات والتلاوات والركعات الابتهالات والدعوات، فيكون فرحهم بشرى لا يعدلها غيرها من البشائر، فيتبادلون التهاني والتبريكات، ويرجون منه ما لم يرجوه في سائر شهور العام. وقد ألمَّ أبو عبادة البحتري بشيء من ذلك، وهو يقول:

ونـديمٍ نـبّهـتُـهُ ودُجـى اللـيْـ                   ـلِ وضـوءُ المصباحِ يعتلِجانِ

قُـمْ نبادرْ بها الصيامَ فقدْ أقْـ                   ـمرَ ذاكَ ‌الهـلالُ مـن شـعـبانِ

[المحب والمحبوب والمشموم والمشروب: 144.]

واستطرف المستظرفون من الشعراء بتأخير رؤيته، لعلهم يضيفون إلى أيام استمتاعهم الماضية يوما، وحاولوا تأخير رؤيته، أو مغالطة الناس عليها، فقال زين الدين بن الوردي:

قلتُ: ‌هِلالُ الصّيامِ ليْس يُرى      فَلا تَصومُوا وَارْضَوْا بِقَوْلِ ثِقَهْ

فَـغالَـطـوني وحَقّـقوا وَرَجـوْا       وكــلُّ هـذا مِــن قُــوّة الـحَــدَقَهْ

[خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 2/ 183.]

ومثله فعله الناثرون في محاوراتهم، والفصحاء في مذاكراتهم، فقد نظر أعرابي إلى قوم يلتمسون ‌هلال رمضان، فقال: أما والله لئن أريتموه لتمسكنّ منه بذناب عيش أغبر”. [البيان والتبيين: 2/ 48.] [العقد الفريد: 4/ 68.]

ومثلما فرحوا لظهور هلال الصيام فرحوا لأفوله وتباشروا بقفوله مع طلوع هلال العيد، ولم تقل فرحتهم بالعيد عن فرحتهم برمضان، وكأن الفرحة تتكاثف مع الهلال، فكما يفرح بطلوعه، يفرح بأفوله، لأن كل أفول له يقترن مع قفول، وتزدوج الفرحة مع كل هلال فتصبح فرحتين: فرحة بالهلال، وفرحة بالمناسبة، التي يقترن بها. وكان عبد الله بن المعتز ولا شك من عشاق القمر، وإن كان القمر حبيب الشعراء عموما، فإليه يستكينون في بسطة الليل وفسحته، وهدوئه وسكنته، وعزلته ووحدته، وخلوه ووحشته، فلا ينسون أنسه، ولا يغتنون عن منادمته. يقول عبد الله بن المعتز:

قَدِ انقَضَتْ دولةُ الصّيام وقَدْ                  بَـشَّـرَ سُـقْـمُ الهـلالِ بالعـيدِ

يَـتْـلـوُ الثُّـريا كـفَاغِـرٍ شَـرِهٍ                   يَـفْـتــحُ فــاهُ لِأكْـلِ عُـنْـقـودِ

ومن لطائف مجون زين الدين بن الوردي قوله:

شَهْـرُ الصِّـيام تَـوَلَّى                 فِــراقُـــهُ يَــــومُ عِـيــدِ

فَــقيـلَ: شُـيِّـعَ بِسِـتٍّ                 فَـقُـلْتُ: أيْضًا وَسَيِّــدِي

[خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 2/ 183.]

جلس ابن الغماز لارتقاب ‌الهلال بجامع الزيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه، وجاء حفيد له صغير، فأخبره أنه أهله، فردهم معه، فأراهم إياه، فقال: ما أشبه الليلة بالبارحة، وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع ابن سالم، فأنشدنا فيه:

توارى هلال الأفق عن أعين الورى        وأرخــــى حِـجابَ الْغَيْـمِ دُونَ مُحَــيّاهُ

فــــلـمّا تَـصَــدّى لارْتِـقـاب شَــقيـقِـهِ        تَـــبَـدّى لـــــهُ دون الأَنــــــامِ فَــحَـيَّاهُ

[نفح الطيب: 5/ 234.]

 

وحينما قام أبو بكر بن حبيش بزيارة بعض أحبابه في يوم عيد الفطر، لم يكن لتغيب عنه صورة الهلال، الذي نقلتها فرحة العيد إلى النهار، فجعلتها تُرى في وجوه الأحبة والأصدقاء والأهل:

أَكُـلّ ذا الإجْـمالِ في ذا الجَـمَالْ              اللـه اسْـتَـحْــفــظ ذاك الـكــــمالْ

يـــا مـالـــكاً بـالـبّـر رِقِّـي أَمَـــا              يكفـيكَ أنْ تَـمْـلُـكـني بـالـوِصـالْ

سِـرْتُ إلـى رَبْــعِي زُوراً كــما              سرى إلى المهجور طيف الخيال

العـيدُ لي وحـدي بـيـن الــورى              حـقّـاً لأنـي قـــد رأيــتُ ‌الهـــلالْ

صَــوْمِـي مَـقــبـولٌ وبـرهـانـه               أني أُدْخِـلـتُ جِـــــنـان الـــوصالْ

[نفح الطيب: 4/ 16.]

 

 جمال الهلال يَفرض نفسه:

لعلنا لا نتعدى الحق حينما نزعم أن عبد الله بن المعتز خليفة يوم وليلة قد أبدع إبداعا منقطع انظير في رصد صور للهلال، تتفاوت بهاء وجمالا، وتتنوع أوضاعا وسياقا، وتثير في النفس من الإعجاب ما يحنق على السياسة ولعنتها، التي أسكتت هذا الصوت الإبداعي المتميز. ومن حرقاته تلك:

انْظُر إليهِ كَزورقٍ من فضَّة … قد أثقلته حمولة من عنبر)

[معاهد التنصيص: 1/ 108.]

ومن التماعاته التي شدت علماء البلاغة لقرون شدا قويا، فما استطاعوا منها فكاكا، قوله الشهير:

اُنْظُرْ إلى حُـسْـنِ هِـلال بَــدَا                 يَهْـتِـكُ مِــن أَنْـــوارِهِ الحِنْــدِسَا

كَمِنْجلٍ قد صِيـغَ من عَسْجَدٍ                  يَحْصُدُ مِنْ زَهْرِ الدُّجَى نَرْجسَا

[خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 1/ 386.]

ومن تحليقاته في سماء الهلال قوله:

وَجاءني في قَميـص اللَّيْـلِ مُسْتَـتراً          يَسْتعجلُ الخطرَ مِن خَوفٍ ومن حَذَرِ

وَلاحَ ضَوْءُ هِـلالٍ كـادَ يَفْـضَـحُــنا مثْـل القُـلامَةِ قَــــدْ قُــدَّتْ مِنَ الظُّـفُـرِ

وَمثل تهويماته في جمال الهلال قَوْله أَيْضا:

زَارَني والدُّجى أحمُّ الحوَاشِي                والثُّـرَيّا فِـي الغَــرْبِ كالعُنْـقُودِ

‌وهِلَالُ السَّمَاء طَوْقُ عَـرُوسٍ                بـاتَ يُجْـلَي عـلى غَـلائـلَ سُودِ

[معاهد التنصيص: 2/ 18.]

ومن صيحاته الراقية في نتفة من الطرافة، وهتفة من الخيال، ورشقة من الإبداع، قوله:

كَأنَّـه وكأنَّ الكـأْسَ في فَمِـهِ         ‌هِلالُ أوَّلِ شَهر غاب في الشَّفَقِ

[خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 1/ 386.]

 

الهلال يُقرن بالجمال البشري:

غالبا ما يتخذ البشر الهلال مثالا للجمال، ولا غرابة، فقد كانت الطبيعة المعلم الأول للإنسان، ومصدر الإلهام الأصلي، الذي لا يجف نبعه، ولا يبلى ربعه، فقد كان الشعراء يتخذونه نموذجا للجمال البشري وكانوا يشبهون به ما يعجبون به، ويعز عليهم ويحبونه. ففخماصة البطن ووضاءة الوجه مع شكله وملاسته في الإنسان، كلها تحيل على الجمال الهلالي:

البطن منه خميص         والوجه مثل ‌الهلال

[مفتاح العلوم: 559.]

ومن تجليات الجمال الطبيعي في الهلال، والأوضاع التي يتخذها، يستقي ابن اللبانة صور الجمال، التي يكسوها حياته العاطفية، إذ يقول:

لـم نقـل في الثـقاف كان ثـقافا               كـنـت قــلـباً بــه وكـان شـغافا

يمكث الزهر في الكمام ولكن                بعد مكـث الكمام يـدنو القـطافا

وإذا ما ‌الهـلال غـاب بغـيم لم                يـكـن ذلـك المـغـيـب انـكــسافا

[نفح الطيب: 4/ 216.]

ويزيد الجمال الأخلاقي صاحبه وضاءة وجه، وبراقة مطلع، ذكرا كان أو أنثى، يقول علي بن ظافر:

بِــتُّ فـيها مـنادمـاً لـصـديــقٍ                ظـلّ بيْـن الأنام خِـلاًّ صَـدوقَا

هو مثل ‌الهلال وجهاً صبيحاً                 ومِـثال النَّـسيـم ذِهــــناً رقيقَا

[نفح الطيب: 3/ 313.]

وحضرت صورة الهلال في الزينة النسوية، حينما تلتف المرأة بالصيغ والحلي، وينكسف تحت وضاءتها ما فوقها من بريق اللؤلؤ والجوهر، وشعاع اليواقيت والدرر،

ومن ذلك وصف الشاعر عَطاء المالقي لحسناء ازدادت حسنا بحليها، يقول:

وذاتِ تــاجٍ رَصّـعُـوا دُرَرَهُ                  فَـزاد فـي لَأْلائـــها بالَّـــلآلِ

كأنّـها شَمـسٌ وقـــد تُـوّجتْ                   بأنجم الجـوزاء فوق ‌الهـلال

قد اشتكى الخلخال منها إلى                  سـوارها فاشتـبها في المـقال

[نفح الطيب: 3/ 399.]

وللهلال هيبته التي يفرضها، وتجلته التي يوجبها، فيقف الراصدون له إجلالا وانتظارا، ويذكرهم ذلك بكل موقف من مواقف الحياة تطلب منهم الترقب والوقوف. فهذا الأعشى تذكره وقفته بالطلل ومناجاته بسؤاله بوقفته في وجه القمر ومناجاته:

مَا بُـكَـاءُ الكَـبِـيرِ بِالأَطْـلَالِ                   وَسُـؤَالِي وَمَا تَـرُدَّ سُـؤالي؟

أَرْيَحِيٌّ، صَلْتٌ، يَظَلُّ لَهُ القَو                 مُ وُقُــوفاً قِـيَـامَـهُـمْ لِلـهِلَالِ

[جمهرة أشعار العرب: 217.]

وللهلال هيبته التي يفرضها في مواقف الرجولة الحقيقية وفي معترك الحياة حيث تنزلق الأقدام، فإما أن تثبت وإما أن تنزلق وتسقط، وإما أن تهوى فترتقي وإما ان تهوي فتختفي، فقد كان الهلال مستحضرا في وصف السلاح، يقول ابن خفاجة في صفة قوس:

عَـوْجاءُ تَعْـطفُ ثـم تُـرْسِل تارةً             فـكــأنّـما هِـــي حـيَّـةٌ تَـنْــسـابُ

وإذا انْحَنتْ، والسَّهم منها خارجٌ             فهِيَ ‌الهِلال انْقضَّ منه شِــهابُ

[نفح الطيب: 4/ 106.]

وكان الهلال والقوس متلازمان في المخيال العربي، لفرط الشبه في الصورة الخارجية، ولفرط الشبه في الغايات، فذاك يكمل الأقمار وذا يتمم الأعمار. ومما قاله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم ذو الوزارتين يكنى أبو عبد الله اللخمي الرندي الإشبيلي ويكتب على قوس:

أنَــا عُـــدّةٌ للـــدّين في يَــــدِ مَـــــنْ                  غَــدَا لله مُنْـتَـصِـراً عـلى أعْــــدائِهِ

أحكي ‌الهلال وأسْـهُـمي في رَجْمِها                  لـمن اعتـدى تحـكي رجـوم سـمائهِ

قـدْ جـاء في القــرآنِ أنّـــي عُـــــدّةٌ                  إذْ نَصّ خَيْــرُ الخَلْـقِ مُحْــــكَــم آيهِ

وإذا العَــــدُوّ أصَـــابَـــهُ سَهْـــــمي                  فقد سبقَ القـــضاءُ بـهُلْـــكِهِ وفَـنائهِ

[الإحاطة في أخبار غرناطة: 2/ 324.]

‌‌ومن عجيب حقيقة الهلال أنه مقياس زمني: تُقاس به الليالي بداية ونهاية، والأيام من الشهور، وتوقَّت به بدايات الشهور، ويُحدِّد عدَّ الشهور من الأعوام. وعلى الرغم من حقيقته الساطعة هاته إلا أننا نذهل بجماله، ونعمى بضوئه، ونُسحر بتشكله، فيغيب عنا أنه عد لأعمارنا، إذ كلما ظهر هلال أو أفل، نقص العد، وقرب القبر. وقد سجل أبو العتاهية هذه الحقيقة الصادمة بالقول:

وقـد طَـلع ‌الهـلال لِهَـْدم عُمْـري             وأَفـرحُ كـلَّـما طَـلــع ‌الهــلالُ!

[العقد الفريد: 3/ 138.]

‌ولا نريد أن نفارق الهلال بما أوثر عنه من معاني الجمال، وما يظل به حياتنا من لألاء نوره، وبهاء حضوره، على هذه الصورة القاتمة، وإنما نريد أن نفارقه على ما يطرب ويريح، وينشي ويسعد، ولا أقرب من ذلك قول شمس الدين محمد بن العفيف المشهور بالشاب الظريف في مليح بدوي:

بَدَوِيٌّ كَـمْ جَـنْـدَلَـتْ مُقْـلَتاهُ                    عاشقًا في مَقاتِــلِ الْفُرْسانِ

ذو مُحـيّا يصيـحُ يا لَـهِلالٍ                    ولِحـــاظٍ تَــقولُ يا لَـسِــنَانِ

[خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 2/ 100.]

ومنه قول جمال الدين ابن نباتة:

نسبُــوه حسنًا للهلال وعينُه                   للظبي تُنْسَبُ لا رُمِيتُ ببينه

فإذا بـدا فــإلى ‌هـلال أصله                  وإذا رنا فهـو الغزال بعيْــنه

[خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 1/ 140.]

ابن جابر

جَمال هـذا الغزال سحْـــرٌ                    يا حــبّـذا ذلـــك الجــــمالُ

هـلالُ خَــدّيْـــه لم يُغَيّــب                     عَــنّي وإنْ غَـيّــب ‌الهـلالُ

[نفح الطيب: 7/ 369.]

وَمَا أحسن قَول السّري الرفاء

وغيْــــمٍ مُرْهـفَاتُ الـبَرْقِ فيهِ                 عَـوَارٍ والرِّياضُ بِهَا كَــوَاسي

وقَدْ سلت جيوش الفِــطْر فِيهِ                 عَلى شَهْرِ الصِّيام سُيُوفَ باسِ

ولاحَ لنا ‌الهِلَالُ كَشَطْر طَوْقٍ                 عـــــلى لَـباتِ زَرقـاء اللــبَاس

[معاهد التنصيص: 2/ 231.]

ومن تجميل الهلال للقبيح ما عرض له ابن الذروي في حدبة ابن أبي حصينة من أبيات، فأحالها جمالا تشتهيه كل النساء في كل الرجال:

لا تَــظُــنَّــنَّ حَدْبَــةَ الظَّهْــرِ عَيْبًا            فهْي في الحسن من صفات ‌الهلال

وكــــــذاك القِــسِـيُّ مُحْــدَوْدَباتٍ           وهْي أنْــكى مـن الظِّـبا والعَــوالِي

وإذا مـا عَــــلا السَّــــــنَامُ فَـفِيـهِ             لِـــقُــــرُومِ الـجِـــمالِ أيَّ جَــــمَالِ

وأرى الانْــحِناءَ في مِخْلَبِ الــبَا             زي ولـم يـعـد مخـلب الريــــــبال

كوّن اللهُ حَدْبَــــةً فيـــك إنْ شِئتَ             من الفَـــضْــلِ أوْ من الإِفْـــــضالِ

فأتَتْ رَبْــــوةً عـلى طَــوْدِ عَــلَــمٍ وأتَــــتْ مَوْجـــــــةً بِـبَـحْـــرِ نَوالِ

مـــا رأتْــها النِّــــساءُ إلّا تَـمَـنَّـتْ            أنْ غَـدَتْ حِـلْـيَـةً لِـكُـلِّ الـرّجــــالِ

[خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 1/ 216.]

ومنه قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي الهوّاري ويعرف بابن جابر المري:

يا سَعْـدُ، قد بَـانَ العُـذَيْـبُ وبـانـه            فانْـزِلْ فَـدَيْـتُـكَ قـد بَـدَا إسْــعـادي

خُذْ في البِـشارَةِ مُهْـجتي يوْما إذا بَانَ العُـذَيْـبُ ونَــوَّرَ حُـسْـنُ سُعادِ

قد صَحّ عِيدي يوْم أبْـصر حُسْنَها وكَـذا ‌الهِــلالُ عَــلامَــةُ الأعْـــيَادِ

[الإحاطة في أخبار غرناطة: 2/ 218. نفح الطيب: 7/ 304.]

لم يشأ الهلال أن يُخفي جماله، ولا أن يمنحه لمن يشاء، ويحرمه غيره، لأن عدل الطبيعة اقتضى أن يصب نوره على رؤوس الجميع، وأن يكحل جمالُه عيون الجميع، غنيا وفقيرا، أميرا ومأمورا، طويلا وقصيرا، معتلي الجبال وممتطي الوهاد. وأراد أن يكون كريما مع البشر في فرحتهم، وأن يسم مناسباتهم، وأن يزين أعيادهم. وشاء أن يكون كريما مع الزمان، فوقّت ساعاته وأيامه وشهوره وأعوامه. وشاء أن يكون كريما مع البسيطة فيصبغها، ومع السماء فيلونها، فلا يترك منبسطا ولا منعرجا إلا وصب عيه من لونه الفاتر. وشاء أن يكون كريما مع الأدباء فأتحف خيالهم، وحسّن صورهم، ورقّى أفكارهم، ورقّق معانيهم، ولطّف عباراتهم. وما يسع قارئ أي بيت شعري يسكنه، ولا أية فقرة يعمرها، سوى أن يُعجب لهذه العذوبة التي حلت فيهما، والنعومة التي ملحتهما، وقبل كل ذلك وبعده فلا يستطيع الأديب أن يفوز إلا بما يفوز به العامي من جمال الهلال في العين، وإحساس في النفس، فأبرك به من كريم يسوي، ومن صامت يدوي.

ناقد من المغرب

‌‌‌‌

عن madarate

شاهد أيضاً

كَالسِّيزِيفِ الْمَلْعونِ – عبدالله فراجي

كَالسِّيزِيفِ الْمَلْعونِ عبدالله فراجي   مِنْ دَاخِلِ قَلْبِي تُبْرِقُ سَيِّدَتِي، لِلأحْصِنَةِ المْتُعَجِّلَةِ وتُعَرْبِدُ فِي عَيْنَيَّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *