الهايكو وفلسفة اللغة توفيق أبو خميس
”إن الذي لا يحب لغته الأم ؛ هو أسوأ من سمكة نتنة، ولكي لا تكون أسوأ من سمكة نتنة أحب لغتك الأم،
لا جرم إن كانت الدول المتقدمة أشد تمسكا بلغتها الأم من الدول المتأخرة؛ فلا توجد دولة تهمش لغتها، وتستبدلها بلغة أخرى”
خوسيه ريزال (١)
عند القول بأن “اللغة وسيلة للتواصل”، فهذا التعريف الاصطلاحي البديهي قد أصبحَ في هذا العصر جامداً ومتجاوزاً. وهذا يعني بأنه عندما نقول بأن اللغة هي وسيلة أو أداة للتواصل فهذا خطأ جسيم لا يُمكن السكوت عنه من طرف فلاسفة اللُّغة. ف”مارتن هايدغر”(٢) مثلاً عرَّف ذات مرةٍ اللغة قائلاً: “اللغة هي ليست أداة يفصحُ بها الكائن الحي عن نفسه، بل هي مأوى الوجود”. حيث قَلَبَ مارتن هايدغر ذلك التصور القديم والخاطئ، لأن في فترة ما بعد الحداثة تمت صياغة اللغة صياغة أنطولوجية، وتمَّ قولبتها في قالب فلسفي، ولم تعد اللغة حِكراً على الأدب وحده فقط بكل تجلياته وتشعُّباته.
وكما قيل بأن اللغة مرآة الوجود، ففي بعضِ الأحيان تصبح اللُّغة وكأنها العصا السِحريّة المعبرة عن خوالج النَّفس، فاللغة هي متعة إنسانية في البند الأول والأساس، والتي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات.
وعن ديمومة اللغة وضمان بقاء إستمراريتها، فلكل لغة من لغات العالم آلية عمل خاصة بها، فيما تميَزت اللغة العربية من بينها بأن عمرها غدا ما يناهز ال 2000عام ، جعلها ذلك ذات قدرة عالية على استيعاب كل ما هو جديد من المفردات والمصطلحات لكافة أنواع العلوم، مع توفر الخطط الاستراتيجية ، والخطط بعيدة المدى للأمم ، لأنه بالعادة معظم اللغات تفقد ذاكرتها بعد مرور 500 سنة، ومثال على ذلك اللغات التي كانت متواجدة في القِدم، والمهيمنة على الشعوب حينها، والتي كانت لها رموز (حروف) خاصّة تتميز بها، تختلف كثيراً عن اللغات الحية المتداولة في العصر الحالي، فمثلاً اللغة التي تحدّث بها فلاسفة اليونان القدماء ومن كان قبلهم اندثرت حالياً، واضمحلت، وما بقيّ منها إلا رواسب قليلة جداً فقط لا غير. وهذا الشيء نفسُه يندرج على عدة لغات قديمة كانت متواجدة ومنها اللغة الهيروغليفية واللغة المسمارية والهيروغليفية إلخ ..
ومن محاسن اللغة إن أي نص مكتوب يعتبر نصاً قابل للترجمة إلى جميع اللغات البشرية، وسيصل معناه ومفهومه، وهذه معجزة بشرية أن خيط النسيج واحد، إلا أن الشيء الوحيد العصي على إكتماله يكمن في روح النص، فإن استمتعت بجملة مكتوبة بأفكار ولغة عربية على سبيل المثال فإن ترجمتها إلى لغة أخرى تفقدها جزءاً من تلك اللذة أو كلها.
هذا ما يقودنا إلى الحديث عن فلسفة اللغة، فلقد جاء الحديث عنها كثيراً من علماء اللغة والفلسفة ومنهم “لودفيغ فيتجنشتاين” (٣) فتعريف فلسفة اللغة عنده بأنها تسعى لتوضيح العلاقة بين اللغة، التفكير، والعالم، وذلك لأجل بيان حدود التعبير البشري عن العالم، فاللغة هي الأداة والوسيلة الأساسية التي نستخدمها للتفكير والتواصل، ولكن هذه الأداة لها حدود معينة، تبين ما يمكننا التفكير فيه أو التعبير عنه وأن حدود كل لغة هي حدود العالم، ولذلك وحسب “فيتجنشتاين” فإن ما يمكن وصفه أو التفكير فيه يجب أن يكون له وجود أو تركيبة معينة يمكن تمثيلها منطقياً، ومن هنا يأتي قوله الشهير: “ما لا يمكن الحديث عنه، يجب تجاوزه بصمت ”
وهذا القول يجب أن يكون معلوم لدينا ويلزم علينا إدراكه عادة عند كتابة الهايكو فهذا الجنس الأدبي هو نوع من التعبير بترك المتخيل والتنحي إلى ما هو مدرك.
وهذا ما يأخذنا إليه القول أيض بأن ليس كل ما يقال معقول.
من روائع اللغة التلاعب بالمفردات:
سألَتهُ: فّهِمت؟
فأجابها: فَهِمتُ.
الأولى: (الفهم)
الثانية: (الهيام)
ليس كل ما يشعر به الإنسان، يمكنه البوح به.
يسمى في اللغة العربية (الجناس المعنوي) ويطلق عليه (التورية) وهو عبارة عن كلمة تحمل معنيين، أحدهما ظاهر، والمعنى الآخر مستتر (مخفي) وهو المقصود.
من حسنات اللغة العربية في الإيجاز أن هناك مفردات تغني عن جملة كاملة للدلالة على المعنى، وهذه الميزة مطلوبة في الهايكو .. فمثلاً كلمة (جاء) تأتي بشكل عدة مرادفات وكل مرادفة منها دلالتها الخاصة بها:
أَتَى: جاء من مكان قريب.
قَدِمَ: جاء من مكان بعيد.
أَقْبَلَ: جاء راغبًا متحمسًا.
حَضَرَ: جاء تلبية لدعوة.
زارَ: جاء بقصد التواصل والبر.
طَرَق: جاء ليلًا.
غَشِي: جاء صدفة دون علم.
وافَى: جاء والتقى بالمقصود في الطريق.
إتقان اللغة ليس بالضرورة حفظ ألفية ابن مالك وقطر الندى ومتون النحو والصرف.
إتقان اللغة هي براعة الكاتب في استغلال مهارات الاستماع والمحادثة وفن التعبير، مع امتلاك مهارات الكتابة بلا أخطاء، وأن يكون قارئاً معبراً بإستخدام أسلوب منسجم مع المعاني والدلالات.
أما عن النحو والصرف فسوف تساعد في تقويم مهارات اللغة للكاتب.
يتبع ..
هوامش:
١ – خوسيه بروتاسيو ريزال: (١٩ يونيو ١٨٦١ – ٣٠ ديسمبر ١٨٩٦) عالم وأديب وروائي وسياسي وطني فلبيني، كان الشخص الرئيسي الذي ساهم في تأسيس واستقلال الفلبين عن الاستعمار الإسباني. يعتبر بطل الفلبين الوطني.
٢- مارتن هايدغر: فيلسوف ألماني ولد 26 سبتمبر من عام 1889 بجنوب ألمانيا، يعد أحد أهم منظري الوجودية فى العالم. وقد تميز هايدجر مع جان بول سارتر بتأثيرهما الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية، والتأويليات، وفلسفة النقض أو التفكيكية، وما بعد الحداثة، ومن أهم إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية.
٣ – لودفيغ فيتجنشتاين :فيلسوف نمساوي بريطاني (٢٦ إبريل ١٨٨٩)- ٢٩إبريل ١٩٥١) عمل أساسًا في المنطق وفلسفة الرياضيات وفلسفة العقل وفلسفة اللغة يعتبر واحدًا من أعظم الفلاسفة في العصر الحديث.
ناقد من الأردن