الرئيسية / الأعداد / العدد السادس والخمسون / ملف خاص بالغة العربية: اللُّغةُ و الصَّحراءُ  إسماعيل – محمد فال هموني*

ملف خاص بالغة العربية: اللُّغةُ و الصَّحراءُ  إسماعيل – محمد فال هموني*

اللُّغةُ و الصَّحراءُ  إسماعيل محمد فال هموني

 

(1)

تنبتُ اللغة في الصحراء كما تنبت الرمال؛ تزحفُ الرمال و تمتدُّ حتى تعمر الفراغ ؛ وتحيطه بالدفء و الامتلاء الغامر؛ كأنها تعيد تكيف اللغة مع الصحراء.

ترى اللغةَ تأخذ فصاحتها حين تتبدون (من البداوة)؛ وتعمر عروق الكلام بأسرار الصحراء .

للصحراء بيانٌ ساحر ممسوس بألطاف الدهشة؛ وغرانيق الذهول.

فلا ترى سوى سحر يتلوه خفاء لاتعرف مأتاه؛ ثم يدلف بك إلى جاذبية كأن خلابا أخذتك من غسق لا تتوقعه؛ فترى عوالم من  البهت و الغموض ما لم تره عينك من قبل ولا خطر على بصيرتك.

فتميد بك الأرض؛ و ترى حواسك سكرى ومن نبيذ هناك؛ ويزدردك الدهش والدهس حتى تفيض منك روحك إلى الأعالي؛  ثم تخلد في أعياد النشوة.

تلك هي اللغة حين تأتيك من عمق الصحراء؛  تبدو كأنها وحي لم يمسسه إنس ولاجان؛ في كامل بكارتها؛ نقية من شوائب التقول أو التأول.

تمجد اللغة ذاتها بأمجاد الصحراء؛  فتتحرر من عقابيل التبلبل؛ وتنجو من خلجات الملاسنة؛ خالية من اجتراحات المعنى أو الفائض الهارب من التجوز.

في صفاء تخثر حتى كاد أن يكون ودقا؛ تفتق الصحراء اللغة من طيف المسافات، تسلخ من العراء كلاما أصيلا تتلوه الرياح على أقبية الفجر؛ ويأتيك الليل بما تناغم في أصوات الحيوان حتى تكاد تفرزه عن غيره من أشتات الصمت؛ فتسمع الخفي من القول؛  وتلمس دبيب الكلمات في دخيلائك كأنها خراف ترعى في واد الوقت؛ ولا ذئب في الجوار.

اللغة والصحراء توأم اللسان؛ وبيان الوجدان؛ سلام على الصحراء ؛ وسلام لمن هفا لبساتين البيان.

 

(2)

لا تسألك الصحراء من أين جئت؟

لكن تسألك بأي لسان تحاورني.

في المحاورة لسان يتدثر في العراء ؛ لا تعرفه الكثير من الألسن.

عندها تجد نفسك على تخوم الصمت .

تعيد الصحراء سؤالها عليك:

متى التحفت الصمت بلاغة ؟

مرة أخرى لا يلتحف الصمت بلاغة غير الحكماء.

فتنحني للإصغاء؛ و تتعلم المشي على خطوط الصمت علك تهتدي إلى لسان الصحراء؛ وبلاغته.

لا تسمع إلا همسا؛  و لا تجد سوى بلاغة خفية تتعلمها من العراء.

عندها تعلمك السحلية كيف ترى الصمت حياة مؤنسة؛ وهي تسرع على الرمل لا توقفها سوى ذبذبات حياة تحت الرمال؛ ثم تراها تقاوم الشظف؛ وتزهو بالانتصار والبقاء في فدفد تراه ميتا؛ وهو في عرفها عرش الحياة.

ثم تلتحف الصمت؛ وتعلمك الرياح الاقتصاد في الثرثرات؛ وكيف تعزف نشيدك لنفسك؛ ولا تكترث لغير ذاتك من غير أنانية أو نرجسية نشاز.

والأجمل؛ وأنت تلتقط أبجدية الصحراء تتحفك أسراب الطير بشكيمة الأصوات؛ فتسمع الصوت الخافت الذي لا يبين؛ و هو عند الطير سيمياء العيش الرغيد؛ و تصك أسماعك أصوات حادة تكاد تفزع منها كأنك في خوف مبين؛  وترى الطير نشوى راقصة كأنها في حلم تأكل خبز الله في ملكوت الليل.

ألا تسمع عواء الذئاب؛ وضباح الثعالب لتعلم أن البقاء زاد المخلوقات كلها، وهي تورث أجناسها سنة المقاومة و الكفاح الأبدي.

هي الصحراء التي تبدأ من الفطرة؛ وتهبك الفطرة لتكون لسانا مجبولا على الصفاء الذي تشاركك فيه الكائنات من غير إسراف أو انحراف.

(3)

حين أيقنت أني آنست نارا؛ قلت لليل : سأمضي إلى هناك حيث لا أفول؛ ولا منحدر يستهويني نحو الهلاك. صمت الليل؛ وتاخمت الحدود لأمشي حيث الوصية التي لا تسألني عنها الظنون.

أودعت قلبي الصحراء؛ ورأيت امتلاء العدم؛ و بدأ طقس الكلام.

تعرج بي الكلمات إلى مستقر لها؛ حيث بيوت الضوء في منارة الحياة؛ مازلت أتحسس الوقت طفلا في صرخته الأولى .

من علمني الخطو؛ وأنا عند باب الخروج ؟

وحدها المعاني من تجهز الأوزان بالإيقاع ؛ وهذي الصحراء ترعى مصير السير .

قيل مر من هنا أولياء الله ؛ و البهاليل؛ و السمار؛ وغبار الجند؛ وأصداء الشعراء؛ و القادمون من سقوف النسيان ؛ والكثير من نزيف الليل … وسمعت ودائعهم في قلبي؛ فلم أرتب دمي لطنين الشدو؛ ومازلت أجمع أثر أقدامي من الجهات ؛ لأن الصحراء لاتحب سوى الأطفال؛  والأنبياء ؛ومن هم من فصيلة الشعراء.

رأيت الشمس تلوك كلام المسافات في المدى؛ و تشيد ظلال النون على حواشي الصمت ؛ لا مفردات سوى الريح؛ ولا أفق سوى يدي التي تنعتق من سرمد الكلام إلى دخيلاء السماع.

(4)

تقول الصحراء؛ ماذا لو فتحت نجواك لي؛ و مضيت تداهم المجهول ؟

فتحت لها مكمن عجزي؛ وركبت رقصي حتى أمسك ضوء الكلام من صيهدها.

كل المسافات نجواي؛ رأيتها تلبسني صحوها لأحصد مراتع الضوء؛ ولا أتخلف عن خفي السر.

ها أسكبني عطشا في قرب المجاز؛ وأصعد سقوف الحيرة لأنجو من قيود المدى .

أسميت كل قطرة ماء نشيدا يطوق لساني بالغيم الذي يغتال هاجرة الصمت.

تقول اللغة: أيها الاعمى؛  تحسس الثرى؛ وتعلم من البيداء نظام الأبجدية .

فلن تجد شريعة توزع العدل بين الماء والنار سوى هنا؛ ولن تنبت الكلمات ببابك حتى تبصر بقلبك انبعاث الضوء من صمتك المرير.

(5)

لا يد لي تكتب ما يبقى من السراب؛ لا شيء يشبه رؤياي.

لي يد ترمم الخسائر؛ ولا تفشي أسرارها للظنون؛ ولي حواس تخيط المجاز في جراب الصمت.

لا لغة هناك؛ سوى اثافي للريح؛ من يهتدي بمتردمها يجد صحو شمس؛ و بعض أسمال غزال؛ وقصة طفلة رأت حبيبها قمرا…

صارت الطفلة بعد حين رائحة حب تتعقبها خياشيم الأرض؛ وجيء بالقرنفل ليكون مدادا ومسك الختام.

قيل إن الشمس تكتمت على الطفلة وأخفتها في جراب النعت ؛ ولم تمسس الجرح سوى بالشهقات.

لا تعلم الشمس أنها أخفت الظهيرة في حناء الكلام ؛ وفسحت للنشيد أن يتوغل في أسماء لا فصيلة لها.

أنا الصحراء ؛ أم اللغات؛ بابي البحر ؛ ومفتاحي الهشاشات.

وأنا العشق القاتل والقتيل.

 

شاعر وكاتب من المغرب

 

عن madarate

شاهد أيضاً

محمد عنيبة الحمري: توقف النزيف لينزف التوقف – المختار النواري                   

محمد عنيبة الحمري توقف النزيف لينزف التوقف المختار النواري   وأخيرا.. آنَ لنزيف الشعر أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *