صباح الخير ! أقولها لنفسي مبتسما كل يوم على أمل أن يكون هذا اليوم أجمل من سابقه..، أرتدي معطفي الأسود وألف رقبتي بوشاح من الصوف الناعم قرمزي.. أحمل الجريدة بيمناي والوجهة كالعادة مقهى الحي الخلفي.. أعبر الأزقة ببطيء متعمَّد ومع كل خطوة أخطوها تتراءى أمامي ذكريات دفنتها لكن رفاتها لازال عالقا بي.. ولدت يتيما وكان لي من الأسماء اسم سعيد.. لأحظى بأتعس اللحظات بالملجأ أو إن أصح التعبير “سجن الطفولة “.. يا لسخرية الأقدار ويا لتعاسة سعيد.. كان كلما اشتد البرد احتضنت وسادتي القذرة وتكورت في ملايتي الرمادية أبحث عن الدفء.. فما أحوجني لحظتها لأم تدفئ يداي الصغيرتان.. لأب يوقد لي المدفئة …تعساء كنا حد الموت،
لم نكن نعرف الأعياد الا بمجيء وفد من الأغنياء للتصدق علينا بما فضل عليهم من الملابس ، كنا نفرح بها و ننط كالقردة من السعادة .. حتى تصل قهقهتنا للمدير الذي ينهال على أجسادنا الصغيرة بالضرب وحين يتعب يبدأ في النباح “أصمتوا أيتها الجرذان القذرة ”
!.. لطالما وددت شتمه وعض خدوده الممتلئة ورفس كرشه الضخمة الناتجة عن نهب مال الأيتام وإدمانه احتساء الشراب الرخيص “الماحيا”. اللعنة! لسنا عارا أيها الوغد! نحن فقط نتاج لحظات متعة توجت بإنجابنا.. مرت السنوات بسرعة غادرت الملجأ حالما أتممت 18 سنة..، كنت أقضي النهار نادلا بإحدى المقاهي التي وفر لي صاحبها مبيتا.. وأداوم ليلا الى أن تخرجت سنة 1970، لأحصل على منحة جامعية للذهاب الى بريطانيا.. لأشق الطريق نحو عاصمة الأشباح هكذا لقبها سكانها نسبة لشحوب جوها ولكن ضبابها الكثيف وبناياتها الشاهقة المخيفة تشعراني بالانتماء كأنني قطعة من هذه المدينة.
كان لي الحظ في أن أعمل كمكلف بإحدى المكتبات هناك ، راق لي العمل بها حتى الأجرة كانت كافية.. كل شيء كان مستقر.. لكن ليس بالقلب ما يعوض ذلك الحنين.. الحنين للوطن، تلك الرقعة الأرضية التي تأويني… صحيح انه ليس لي أم أتوسد ركبتيها ولا أب أتكل عليه.. لكن لدي وطن وتراب أقبله..
مرت السنوات العشر الأولى هادئة رتيبة اعتدت على لندن واعتادتني ، بت إنجليزيا في كل شيء بدءا من البشرة البيضاء إلى نوع السجائر ..كنت وسيما ومرغوبا لكن، كلما بادرت بالإعجاب بي إحدى السيدات أو دبر لي صديق موعدا مع احداهن للزواج نفرت.. فلا حاجة لي بإنجاب أطفال دون عائلة كيف سأوفر لهم الاستقرار والامان الذي لم أحظى بهما، ففاقد الشيء لا يعطيه.. لا زلت أجهل كيف قلبت موازيني تلك الصدفة.. كانت ترتاد المكتبة بوتيرة يومية فتاة عشرينية ناعمة الملامح.. بشعر بني مجعد طويل وخدود شبه مكتنزة تغطيها النظارات، استدارة فمها الحمراء كالكرز الجاهز للجني ابتسامتها خافتة فيها حياء.. كلما نظرت صوبي بتلك العيون الواسعة ارتجف قلبي خافقا.. أصابتني بلعنة أفروديت أشعلت بي فتيلة الرغبة.. أسطورة إغريقية هي.. سليلة آلهة الجمال.. قرطاجية تدعى رحيل.. تجرعت نبيذ العشق في وجودها فبات يومي لا يكتمل دونها.. هي لم تعلم بذلك.. أبقيت الأمر سرا بيني وبين نفسي.. خشيت نفورها.. وكتمت مرغما ” تايري” بداخلي.. لكن نار العشق بدأت تحرقني رويدا رويدا وبات الكتمان صعبا عزمت البوح لها داهمتها قبل مغادرتها قائلا: ألي بلقائك غدا عصرا قرب شجرة الدردار الكبيرة!
أجابت بالقبول .. اشتريت الجوري واتجهت صوبها عازما الاعتراف.. انتظرت وانتظرت.. ولم تأت رحيل.. بحثت عنها كثيرا لأيام.. الى أن سألت إحدى صديقاتها، فأخبرتني أنها غادرت فجرا صوب الوطن ستتزوج هناك..
القدر يعبث بي مجددا أرسل لي رحيل لترحل عني ..انفطر قلبي بأسى.. آه رحلت رحيل.. رحيلي.. أيعقل أن تيتمني الحياة مرتين!! ألا يحق لهذا اليتيم أن يحظى بالحب والأمان.. رميت بالجوري أرضا.. دهسته انتقاما.. وأغلقت صفحة من حياتي ليتها ظلت خاوية.
الشيب يكسو شعري الآن ،تقوس ظهري .. وأتممت عقدي الستين.. كل عقد أمضيته بهذه المدينة.. أدفنه هنا بأحيائها.. وأنا أمشي للمقهى أنثر ما تبقى مني من أشلاء الماضي.. أمسح ما أهدر مني من دموع.. أشعلت سقارة ثم أمسكت جريدتي.. معلنا عن بداية يوم جديد.. في حياة هذا العجوز الوحيد.. هنا حيث عشت.. وهنا حيث دفنت ذكرياتي.. شيعوا جثماني هنا وادفنوني بهذه الأرض فليس لي في الوطن من يستقبل نعشي..