فــي حضرة السواد
مصطفى أجماع*
ينهضُ هذا السَّوادُ جاداً في حضرة الشَّكل وفي تضــــــــــــــــــــــاده، مُستويا على نار هادئةٍ، تَواقــــــــــاً بالإقـــــــــــــــــــــدام والسير قدما، مستلهما ما ينبثق ويتنامى والسيمات التي عليها تتأسس عملية انتاج المعنى وإدراك المغزى، للمنجز الإبداعي بغرض تحقيق تواصل هادف …
وأَعْلَمُ أنَّ للبصر بصيرةً، وبصائرٌ. والغايةُ إمساكٌ بتلابيب الجميل؛ مادام هو نقطة التأمل، ومبتغى القراءة والتفكيك والتأويل … فكيف والغايةُ في مراتب العشق تكمن في استحضار جلالة الحرف والإنصات إلى صريره، والقبض على ضوئه أو تلوين هوائه، في رحلة صيرورة البحث والانخراط عن كنه السؤال…
فأي عين يشرئب لها السمو لترى؟ فتدرك ما ترى؟ وماذا ترى ، وكيف ترى؟
(واعلم أن العين تنوب عن الرسل ويدرك بها المراد)
وأعلم أني ذاك الموغل في السواد، الهائم في حضرته، ولا غرو إن قلت المدثرُ به والمُحْتَفِي به في ترتيب مراتب التباهي.
فإذا كان الشِّعر في تماهيه؛ هو في حاجة لاستحضار الألوان وتوظيفها تفاعلا ومنطقا للشَّاعريَّة الفَعَّالة، المنتجة. حيث يستحضرها كَمُحَركٍ لِلإلهام وتحريك الصُّور، وبقَبولها لغاية الإشارات القادحة شرارة اشتعال حقول الجمال …
فان الارتباط بالسَّواد/الأسودِ ضربٌ من الادراك المُسْبَق والمُسْتَقي من طبيعته، التي دونت وخلقت وبنت وأسست ثقافات متعددة ومتتالية للحضارة الإنسانية …
هو الأسودُ الشاهدُ بوظيفته، والمَشْهودُ له منذ بدء التَّدوين. وهو الدرس في آلياته ، القائد إلى الأفق والمعرفة ، وهو المنتج والناتج ..
فالألوان بطبعتها خرساء متكلمة، ناطقة صارخة وجاذبة بألقها تارة أخرى.
وما الأسود منها الا آسرُ مستفزٌ مستئنسٌ مؤسسٌ متمردٌ على قمقمه مُوزِّعٌّ فصوله في إعادة صياغاته وتعاريفه. وكأنه يستعير قول المجذوب:
شافـــــــــــــــــوني
اكْحَلْ مْغَلَّفْ ——يَحَّسْبو ما فِيَّ ذْخيرة
وأَنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
كِـ لكْتابْ المْؤَلَّفْ —–فِيه مْنافَـعْ كْثيـرَة
هو الأسودُ الواحدُ، المتعِّددُ في دلالاته، الغامضُ، المتمردُ، الجذابُ، الأنيقُ، الرَّسميُّ، العميقُ، المُتحَدي …
وإن شار للاكتئابِ أو الموتِ أو الشَّرِ فيما ذهب إليه البعضُ، أَو ارتبطَ بالحدادِ. فالغزل العربي يرفل بسواد الشعر والعين والحدقة والحاجبين والاهداب والخمار …
هو الأسود الواحد في تضاده، يتبنى شغبه الجميل بين التقابل والصراع، والحضور والغياب، بينه وبين الأبيض. وكأنه يحـــــاكي مواقِفَه ومواقِعَه بالقدم.
هو الأسود اتخَذْتُهُ خليلا حاضرا، راقصا معبرا ناطقا بالإشارات… عراب الكلمات بالصمت، في بوحه عند مراتب العشق. فكان منذ البدء، ولازال يرفع شارات التضاد موقعا آفاقا لمدارك الجمال…
إنه تركيب ثقافي بامتياز
هو الأسْوَدُ، الأدْهَمُ، العُلْجُمُ، الْغِرْبيبُ، الخُدَارِيُّ، العَميقُ، الفَوْضَويُّ، النَّاظِمُ في صمته، رديفُ الأنغام في نوازِلها، وصَواعِدها، وفي صمتها وصخبها. تكوينه الشبيه بالعطر الناهض …
فهو يشعُ بالحاجات، ويشرئبُ بالأمنيات، وفيه تنصهر الألوانُ وتذوب بأحجامها وأشكالها. يقيم بين البصري والفكري، حمال مآرب. المتوهج والمحايد، والفاتن المفتون.
أدركته، فأدركني. فاكتفيت به كافيا وشافيا. فأُخْضِعْتُ لِسَطْوته، وأخْضَعْتُه عنادا لفصاحة البياض، واليه أعود. وإن جعل بينه وبين باقي إخوته حجاب فأنا له العاشق وهو لي الوامق
أرى فيه شيئاً يُدركه الخُلَّصُ من عيون مقامات الوجد،
وإن مشيت إليه؛ خاطبته، وفي صيرورته يستحضرُ مواقفَ التقابل الجميل.
فنان تشكيلي من المغرب