البينية الثقافية في الذوق والتلقي- محمد سعود
” طلب إمبراطور صيني من رسام قصره أن يمحوَ اللوحة التي بها شلال ، لأن هدير مياهه يحرمه من النوم ”
ارتأيت أن أبدأ بهذه العبارة التي أوردها المفكر الفرنسي ريجيس دوبري في كتابه (حياة الصورة وموتها ) لأتحدث عن موضوع الذوق والتلقي خاصة التصاحب الحسي Synesthesia. حيث يمكن للمتلقي أن يسمع ما في الصورة أو يرى ما في الموسيقى أو يشم رائحة وهو يشاهد فيلما سينمائيا ، أو أن كل شكل أو رقم مرتبط بلون معين وهو الشائع . هذا النوع من التلقي يعتبره البعض مجرد هلوسات بصرية أو ظاهرة مَرَضِيَّة والبعض الآخر نِعمة وظاهرة إبداعية بحكم أن التصاحب الحسي ارتبط بالكثير من الفنانين والأدباء ونذكر منهم فاسيلي كاندينسكي الذي كان له الفضل في تقديم الموسيقى كمصدر للإلهام في الفن التشكيلي . ويكفي أن نقرأ كتابته “روحانية الفن” ففي إحدى كتاباته يقول : “اللون هو لوحة المفاتيح، العيون هي التناسق، الروح هي البيانو متعدد الأوتار. الفنان هو اليد التي تعزف، تلمس مفتاحاً هنا أو هناك لتبدع اهتزازاتٍ روحيةً لا تتوقف”.. وفي إحدى رسائله للملحن النمساوي أرنولد شوينبيرج Arnold Schoenberg ، الذي كان مُرتبطًا بالحركة التعبيرية في الشعر والفن الألماني و كان كادينسكي معجبا به يقول :”لقد تعلمت للتو أنه لا يمكن العثور على الانسجام الحالي من خلال الأصوات الهندسية، ولكن على النقيض من مضادات الهندسة، ومضادات المنطق المطلق.” كما أن الشاعر الفرنسي آرثر ريمبو يمثل في إحدى قصيدته “صوائت ” Voyelles كل حرف بلون معين.
A noir, E blanc, I rouge, U vert, O bleu : voyelles,
Je dirai quelque jour vos naissances latentes :
A, noir corset velu des mouches éclatantes
Qui bombinent autour des puanteurs cruelles
إضافة إلى فلاديمير نابوكوف صاحب رائعة” لوليتا ” في سيرته الذاتية نجد أنه كان يعاني من الحس المصاحب وفي سيرته الذاتية يظهر أنه كان يتمتع بهذا الحس ويكفي أن نستعرض ما يقوله في هذا المقطع :”نظرا لوجود تفاعل دقيق بين الصوت والشكل ، أرى q بني أكثر من k ، في حين أن s ليس اللون الأزرق الفاتح ل c ، ولكنه مزيج غريب من اللازوردية وعرق اللؤلؤ. لا تندمج الصبغات المجاورة ، ولا تحتوي الإدغامات على ألوان خاصة بها ، ما لم يتم تمثيلها بحرف واحد في لغة أخرى (وبالتالي فإن الحرف الروسي الرمادي الرقيق ثلاثي السيقان الذي يرمز إلى sh ، وهو حرف قديم قدم اندفاع النيل ، يؤثر على تمثيله باللغة الإنجليزية”
و بالعودة إلى قصة الإمبراطور الصيني الذي طلب بمحو الشلال المرسوم على الحائط نجد أن التفسير الذي ذهب إليه ريجيس دوبري حين استدل على أهمية حاسة السمع على البصر في المجتمعات الشرقية يحتاج إلى إعادة النظر،، صحيح أن ما ذهب إليه ريجيس دوبري في أن المجتمعات الشرقية تكون حاسة السمع أهم من البصر في المجتمعات الشرقية تكون حاسة السمع أكثر أهمية وتأثيرا من حاسة البصر والدليل ان في القرآن الكريم تسبق حاسة السمع البصر حسب علمي في كل الآيات القرآنية،، ونجد نفس الشيء في الكثير من الأبيات الشعرية وكذلك الأمثال والحكم. حتى توفيق الحكيم حين زار متحف اللوفر في كتابه “زهرة العمر” حاسة السمع في تأمل لوحة “اعراس قانا” Les noces de cana للفنان الإيطالي باولو كالياري المعروف بفيرونيس Paolo Caliari – Véronèse قائلا :
” .إني لأكاد أصغي إلى أحاديث الأبطال وهم على الموائد في أفراح (قانا) لوحة (فيرونيز)، وأكاد أسمع ضجيج الحاضرين وصياح الشاربين ورنين الكؤوس وخرير النبيذ يفرغونه من دن إلى دن… وأنا كالمأخوذ، أفحص السطور بيدي لأتبين إن كانت من مداد أو من أثير ”
والملاحظ أن عند العرب بصفة خاصة و المجتمعات الشرقية بصفة عامة تكون حاسة السمع أكثر أهمية وتأثيرا من حاسة البصر والدليل أن حاسة السمع تسبق البصر حسب علمي في كل الآيات القرآنية التي قمت بجردها ،، وكذلك بعض الأمثلة من الشعر العربي كقول بشار بن برد:
“يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة-
والأذن تعشق قبل العين أحيانا.”
ولكن بالنسبة لهذا الإمبراطور فالأمر مختلف تماما لأنه كان يتمتع بحس مصاحب كالفنان الروسي فاسيلي كاندنسكي ونابوكوف وغيرهم، وهذه الظاهرة التي أثارت الكثير من الجدل دفعت علماء الأعصاب الى دراستها.. وأنجزت دراسات كثيرة في هذا المجال ولكن أهمها هي الدراسات التي أنجزها عالم الأعصاب والوراثة البريطاني سيمون فيشر Simon Fisher الذي أثبت ان هذه الظاهرة حقيقية وليست هلوسات ،ومن خلال تجارب مخبرية بالأشعة والرنين المغناطسي لاحظ هذا التداخل بين الحواس.. ورغم الدراسات الكثيرة التي أنجزت في هذا المجال فإن مصدر هذا التداخل والتصاحب بين الحواس يبقى إلى حد الآن مجهولا ،ويبقى السبب الوحيد الذي اتفقوا عليه هو الوراثة ، ولا علاقة به بمرضي التوحد أو الشيزوفرانيا كما كان يذهب البعض. كما أن الكثير من الأشخاص الذين لهم هذا النوع من الحس المصاحب ليسوا مرضى أو مصابين بهلوسات سمعية أو بصرية.. وبقيامي بإطلالة على صفحات التواصل الاجتماعي لاحظت وجود مثل هؤلاء الأشخاص ولهم صفحات يتابعها الملايين خاصة في التيك توك. ويتفاعل الناس معهم بشكل مذهل.. ولكن السؤال المطروح هو هل الذين ليس لهم حس مصاحب يتمتعون ولو قليلا بهذه الظاهرة خاصة في الأحلام التي يتحول فيها سقوط شيء معين في البيت أو سماع صراخ أو سماع موسيقى إلى كابوس عبارة عن شريط قصير من الصور المتلاحقة أو حضور حفل أو غير ذلك.؟
فنان تشكيلي وباحث من المغرب