محمد علي الذنكَلي شاعر ليبي فاره الطول كعود الخيزران أسمر البشرة لا تفارق الابتسامة محياه، كـأنه حينما ولد فتح بصره وبصيرته على ألوان زاهية فلم يعد قادرا بعدها على طمس ابتسامته. يسافر عبر الشعر إلى جنة حروفه ومعانيه المشتهاة…
كيف تسافر الذات داخل الذات؟ بأي لغة نسافر أم ترانا نركب قطار الصمت أم نختار الضجيج مرآة تعكس أعماقنا وتضيء بالتالي الجزء الغامق والداكن من الذات.
لماذا نكتب؟ لماذا نكتب ولماذا يقترف الشاعر فعل الكتابة؟ هل لأن الحياة غير سرمدية يتكلم الشاعر ويكتب؟ الشاعر وهو في محراب الكتابة أحيانا يترك اللغة جانبا ليختار الصمت طريقة للتواصل والتعبير عن الأشياء والناس والأماكن..
محمد علي الدنكَلي شاعر متمرس، يكتب وهو يرقب سماء الشعر تبعثر نجومها حينا وتجمعها أحيانا أخرى لتضيء جوانب خفية في نسيج الحروف والكلمات. وهو يقرأ يطالب بالصمت، يشترط أن يقرأ في حضرة الصمت ليكسر زجاج هذا الصمت. يقرأ بهدوء وبصوت خافت.. يفكك الحروف والمعاني. هل للكلمات نفس المعاني عند جميع البشر؟ أم ترانا نسكن داخل بعض المفاهيم ننبهر بها فننصهر معها دونما عناء. لمحمد علي الدنكَلي مفاهيمه و معانيه، معاني متوهجة تعطي لكل صورة شعرية منحى يرقى بها إلى ضفاف حيث المعنى شمس تدفأ قلوبنا أو تنور نجتمع حوله كلما ضاقت العبارة.
محمد علي الدنكَلي كان حاضرا خلال الدورة الثانية للمهرجان العربي للزجل بأزمور حضر على لسان صديقه المبدع الجزائري: توفيق ومان. كان هذا الأخير يفتقد صديقه ويحمل بين ضلوعه جراحه. في عدة جلسات كان يحكي عنه يحاول رسم وجهه الباسم والمشرع على الأمل. يتذكره، يتنهد وهو يقول: «واش نت حي ولا ميت يا دنكَلي؟» كان المبدع توفيق ومان على حق حينما ظل وفيا للرجل. فهو يستحق الحياة ويستحق أن نجالسه ونستمع إليه ونشاركه مستملحاته وقفشاته. يستحق أن نصمت ليقرأ نصوصه النابضة بدمه. اللغة مقتطع من الذات تعبر عنا ونعبرها لنسلك إلى سدرة منتهى المعنى. يكتب بعمق ورشاقة.. وهو يقرأ نسافر إلى ذاتنا. يرسم طريق المعنى بكل ثقة، هل يتألم أم يتغنى بالجراح. وهو يقرأ كأنك به يصلي في محراب الكتابة. حينما ترى الشاعر لأول وهلة تستحضر الشاعرين أمل دنقل وبدر شاكر السياب لست أدري هل ملامح وجهه قسماته أم صوته الذي جعلني أستحضر الشاعرين. لا يجهد حباله الصوتية وهو يقرأ. يعطي لحروفه متسع من الهدوء لتولد كما تشتهي وأكثر. رغم ابتسامته العريضة المرسومة تلقائيا، رغم طبعه المرح إلا أنه لبس برنوس الحزن في غفلة منه. هذا الحزن الجميل الذي يهذب نفوسنا، يساعدنا على فهم الحياة وعلى الاقتراب أكثر من جراح الآخرين.. هذا الحزن الذي يساعدنا على هضم مواد الحياة الدسمة، على اقتناص فرص الفرح كي لا نصبح شجر حزن لا تخضر أوراقه.
كنا في جلسة شعر، قرأ مجموعة من قصائده وكانت لهذه القصائد ميزة مخصوصة، له لغته وحقوله الدلالية الآسرة. يفتت المعنى، يسحقه يعيد تركيبه ليصبح له لون ونكهة وكينونة. يصنع المعنى أحيانا من كلمات ضيعت رونقها بفعل التكرار والاستهلاك اليومي يعيد الحياة لكلمات أصابها الصدأ، ماتت أو تكاد. عبارات تضيع على هامش اللسان.
محمد علي الدنكَلي رجل ذو هالة رائعة وقوية تراه لأول مرة لكنك تحسه رفيق دروب الطفولة أو رفيق الجراح الدفينة والتي أصبحت كالمومياء كلما تحركت أعلنت لعنتها.
مرة وهو يقرأ نصا عن المكان: مكان الطفولة، وطنه ضوء روحه بكى وبحرقة فغدت مسحة الحزن تنير وجهه وتنير معنى الوطن في عقول البعض وترسم خريطة الوطن عند البعض الآخر.
ونحن في جلسة شعر إذ بالمبدع الجزائري توفيق ومان قال ضاحكا: «عمركم شفتو عفريت، الدنكَلي عفريت يتشاف» إنه عفريت الشعر خرج من مصباح سحري ورفض العودة حينما علم أننا بالشعر قد نتنفس هواء فريدا..
إلى أن أسافر وحروفك ومعانيك لك مني تحية وارفة، إلى أن تسعفني لغة موليير في تفصيل برنوس لقصائدك لك المعنى الآسر بكل حرقته ووجعه لك المعنى تاج على الكلمات.
كاتبة من المغرب